لـمـحـات مــن سـورة الفـاتـحـة وهـداهـا


إن هذه السورة هي فاتحة الكتاب، والسبع المثاني، وأم القرآن، فهي على إيجازها قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن الكريم؛ بل إنها جمعت كل ما فيه من كليات العقيدة وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات، وهذا البيان وتلك اللمحات(1).
أولا- من معاني آيات سورة الفاتحة:
بسم الله الرحمن الرحيم هي صيغة البسملة مفتاح لكنوز الأسرار والأنوار، بسم الله أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى، لأن لفظ اسم مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء الحسنى. الله هو المألوه المعبود بحق وحده سبحانه. الرحمن اسم دال على عموم الرحمة لجميع الخلق، و الرحيم دال خصوص الرحمة للمؤمنين، والبسملة قال الإمام مالك رحمه الله تعالى إنها «ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها»، وهي قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم في هذه السورة حق، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنتها إياه من وعدي ولطفي وبري. والبسملة مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان . وقال بعض العلماء: إنها تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات.
الْحَمْدُ لِلَّهِ ثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه.
رَبِّ الْعَالَمِينَ أي مربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.. فدل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ على انفراده بالخلق والتدبير، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
مَلكِ يَوْمِ الدِّينِ ويوم الدين، هو يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم، خيرها وشرها، حين يظهر للخلق تمام الظهور، كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق. حتى إنه يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار. كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
وقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، وهذا قلب الفاتحة وكنز أسرارها، ومنبع أنوارها؛ الذي يلخص قصة الخليقة من أولها إلى آخرها، وجودا ووظيفة وغاية، و العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و الاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هي وسيلة السعادة الأبدية، والنجاة من الشقاوة.
ثم قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم أي: وأرشدنا يا ربنا إلى معرفة الطريق المستقيم الموصل إليك تحقيقا، ووفقنا للاستقامة على منهاجه تثبيتا، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك. وهذا الصراط المستقيم هو: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. غَيْرِ صراط الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط الضَّالِّينَ الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم.
ثانيا- من توجيهات السورة وهداها:
1 ـــ الفاتحة ترسم منهج صلاح الدارين بمقاصدها :
وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص، والأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، فالقصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين، وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى قوله يَوْمِ الدِّينِ حمد وثناء، وقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلى قوله الْمُسْتَقِيمَ من نوع الأوامر والنواهي، وقوله صِرَاطَ الَّذِينَ إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد، وفيها أن جميل الطاعة يرسم المنهج الحق للحياة الطيبة، ويبشر بحسن العاقبة.
2 ــ دلالة الافتتاح بالبسملة:
افتتاح الفاتحة بالبسملة إرشاد للمسلمين إلى أن يفتتحوا كل أقوالهم وأفعالهم بها، لأن فيها استعانة بقدرة الله تعالى حين الشروع في فعل الأشياء؛ في بدء العمل، والأكل والشرب، ولبس الثوب، وركوب السيارة… وقد ورد في الحديث الشريف: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع»(2).
3 ـــ التزكية النفسية في الفاتحة:
إن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات والنذر، ولا تشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان، وتخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد نبه قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية، فإنها تضمنت أصولا عظيمة: منها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه إِيَّاكَ نَعْبُد والتهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه وَلا الضَّالِّينَ .
4 ـــ الاستعانة بالله في الفاتحة:
وهي طلب المعونة على مالا قبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرته على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعا، وتكرارها دائما وفي كل شيء اعتراف بدوام التخلي عن خواطر الاستغناء عن الله تعالى بالتبري من الحول والقوة تجاه عظمته، وذلك بما تضمنه وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وفيه اعتراف بدوام غنى الله عن خلقه، ودوام افتقار الخلق إليه سبحانه.
5 ـــ مقام العبودية في الفاتحة:
قال الفخر رحمه الله: مراتب العبادة ثلاث: الأولى أن يعبد الله طمعا في الثواب وخوفا من العقاب وهي العبادة، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب. الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله. الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقا مستحقا للعبادة وكونه هو عبدا له، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية. لذلك فقولنا إياك نعبد وإياك نستعين قائم على معرفتنا وإدراكنا ل رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فمن أدرك معنى الربوبية الحقة لله تعالى حقق أعلى مقامات العبودية له تعالى.
6 ـــ الدعاء في الفاتحة:
متضمن الدعاء هو المقصود الأول للفاتحة وواسطة عقدها، وهو طلب الهداية، وهو عبادة لا تكون إلا لله، لا بد فيها من الإخلاص والاستعانة، وأن تأتي بعد ثناء جميل على الله سبحانه .
7 ـــ الفكر «الجمعي» في الفاتحة:
فهذه السورة بما هي أم القرآن، هي أكثر ما يردد منه، وترديدها يرسخ لدى المصلي إحساسا بالجماعة مع أنه قد يكون فذا، ولكن الله تعالى هكذا علمنا هذه المناجاة العظيمة، فجعلها بصيغة الجمع، فكأن القارى ينوب عن إخوانه، ويدعو لنفسه ولإخوانه، وقد جاء ذلك في ثلاثة مواضع: أولها إياك نعبد ، وثانيها إياك نستعين ، وثالثها اهْدِنَا ، فالتفكير في الجماعة المؤمنة عقيدة ودستور حياة يعدي الخير إلى الغير، وهو حصن من التفكير المصلحي، يقي الجماعة المؤمنة مصارع التشتت والفكر الفرداني، فالمؤمن لا وجود له إلا داخل الجماعة المؤمنة، بل لا يجد ذاته إلا داخلها، فإذا سرت أيها الأخ الكريم فسيرك مع الجماعة المؤمنة، وإذا صاحبت فصحبتك من الجماعة المؤمنة، وإذا استشرت فاستشارتك لا تخرج عن الجماعة المؤمنة، وإذا وثقت فثقتك لا تكون إلا في الجماعة المؤمنة، وإذا واليت وأحببت فأولى بذلك كله الجماعة المؤمنة.
8 ـــ الأسوة الحسنة في الفاتحة:
فالرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أصل عظيم ضمته الفاتحة وأدارت عليه معانيها، وأسست عليه مقاصدها، وهو معنى يقابله التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ . فالفاتحة تعلم المؤمن أن يتلمس سبيل الصالحين من حوله في محيطه ومجتمعه، ويطلب جوارهم في الدنيا والآخرة اهْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فأنت حين تقرأ الآية الكريمة تطلب من الله تبارك وتعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا سبيل إليه إلا أن تصحب أمثالهم في الدنيا وتسلك نفس الطريق الذي سلكوه في السير إلى الله تعالى.
9 ـــ من أسرار تكرار الفاتحة في الصلاة:
لعله من أسرار اختيار السورة لنرددها سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة؛ أو ما شاء الله أن نرددها كلما قمنا ندعوه في الصلاة؛ تقوية الصلة بالله تعالى، فعن أبي هريرة قال رسول الله « قال الله تعالى: قسمت الصلاة أي سورة الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال الله تعالى أثنى علي عبدي. وإذ قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ، قال: مجدني عبدي وقال مرة: فوض إلي عبدي فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»(3).
فتكرار تلك المناجاة العظيمة، وذلك الحوار الروحاني علامة على رقي العبد في درجات قربه من ربه، ثم إنه لا جرم يحصل من معاني الفاتحة -تصريحا وتضمنا- علم إجمالي بما ضمه القرآن من الأغراض مما يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية، وتكرار طلب الهداية دليل على دوام الحاجة إليها لكثرة تقلب العباد، ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكير لما في مطاويها، مما لا ينتفع به إلا من كابدها. والموفق من وفقه الله تعالى.

ذ. ميلود خطاب
————-
1 – المراجع: تفسير القرطبي، تفسير الطاهر بن عاشور، تفسير سيد قطب، تفسير السعدي، وتفسير الشعراوي ومنتدى الفطرية لفريد الأنصاري رحمهم الله .
2 – قال الطاهر بن عاشور: «لم يروه أصحاب السنن ولا المستدركات، وقد وصف بأنه حسن».
3 – رواه مسلم والأربعة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>