من معالم التنمية الاقتصادية في الإسلام


إن للتنمية الاقتصادية في الإسلام مفهوما شاملا، يستوعب كل ما يؤدي إلى الحياة الكريمة للإنسان الذي كرمه الله تعالى، وجعله خليفته في الأرض لعمارتها، قال تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (هود: 60).
من عناصر التنمية الاقتصادية التي عني بها الإسلام عناية كبيرة: الإنسان والعمل، وذلك بالعمل على تكوين الإنسان وبناء قدراته والعناية به ليسهم بكل طواعية ورضى في التنمية الاقتصادية، ثم العمل الذي دعا إليه الإسلام ورغب فيه، قال تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون (التوبة: 106)، وفي تمجيده للعمل الصالح وعد الذين يحسنون العمل بأجر كبير، قال تعالى: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (الكهف: 30)، وآيات القرآن في ذلك كثيرة.
ليس المقصود بالعمل الصالح عبادة الله فحسب، ولكن التعبير بلفظ العمل وتكراره في آيات القرآن الكريم، مقرونا بالإيمان يفيد أن كل عمل يحقق الخير، وتصدق فيه النية هو عمل صالح، يثيب الله تعالى صاحبه ويوفيه أجره، ولا شك أن العمل على رخاء الحياة، وتيسير معيشة الناس، وتحقق مصالحهم المشروعة والضرورية، هو من الأعمال المشروعة التي يرضى الله تعالى عنها. قال رسول الله : «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم» الطبراني.
وقرر علماء الإسلام أن كل ما لا يستغنى عنه في قيام أمور الدنيا، فتعلمه ووجوده من فروض الكفاية، ومن ذلك أصول الصناعات المختلفة، كالحدادة، والخياطة، والنجارة، وكالتجارة والفلاحة، وما إليها مما هو ضروري، وكالمعاملات لدفع الحرج عن الناس، ومعنى أنه من فروض الكفاية، أنه إذا لم يتحقق في الأمة أثمت كلها، وأن الإثم لا يرتفع عنها إلا إذا قامت كل طائفة بنوع من هذه الأنواع. ومع دعوة الإسلام إلى العمل الصالح، أحاطه بضمانات قوية، تجعله دائما لخير الأمة كلها، وفي سبيل سعادتها ورخائها ورقيها، فدعا الإنسان إلى التخلص من أنانيته، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يقدم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية عند التعارض، وزاد الإسلام في هذه الدعوة حتى بلغ بها إلى الترغيب في إيثار الغير، وتقديم مصلحته، وجعل ذلك سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (الحشر: 9)، أي ولو كانوا محتاجين الشيء يؤثرون الغير به، وقال تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (الحشر: 9). وكما أمر رسول الله بإعطاء العامل أجره بدون تأخير فقال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»(ابن ماجة). وذلك بتأدية أجره دون تأخير ومماطلة.
الإسلام دين عملي ينظم أحكامه على أساس من واقع الحياة ومقتضياتها، ويزواج بين مطالب الروح ومطالب الجسد، بميزان العدل والاستقامة، وهو لذلك يدعو المسلمين إلى عمارة الأرض التي هم مستخلفين فيها، وفي الوقت نفسه يمنعهم من الانحراف والميل المفرط إلى أحد الجانبين الروح أو الجسد، فمنعهم من اعتزال الدنيا وترك السعي فيها، والانقطاع إلى العبادة والاعتكاف إليها، كما منعهم من الاستغراق في طلب الدنيا وإجهاد أنفسهم في الحرص عليها إلى الحد الذي يفقدهم التوازن الإنساني، ومن هنا يأتي التهوين من شأن الدنيا، والتوجه إلى ما هو خير وأبقى، ليكون طلب الدنيا وسيلة لا غاية، قال تعالى: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو (الأنعام: 33) وقال أيضا: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (آل عمران: 185).
إن الذين يتخذون الدنيا لهوا ولعبا وزينة وتفاخرا وتكاثرا بينهم غافلون عن قيمتها الحقيقية وطبيعتها الفانية، وغير خاف أن ذلك لا يقلل بأي حال من الأحوال من جوهر الدعوة إلى العمل والسعي في الأرض والابتغاء من فضل الله، وعمارة الأرض، والانتفاع مما أودعه الله فيها من أرزاق، أمر العباد بتحصيلها واتخاذ وسائل طلبها عن طريق الفلاحة والصناعة والتجارة وهي الوسائل الأساسية في عملية التنمية الاقتصادية:
- ففي الصناعة: نجد القرآن الكريم في معرض التحدث بفضل الله على نبيه داود يقول الله تعالى: وعلمناه صنعة لبوس لكم ليحصنكم من بأسكم (الأنبياء: 79). ويقول سبحانه وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد (سبأ: 10-11)، وفي القرآن إشارات كثيرة إلى جملة من الصناعات ومن ذلك قوله تعالى: «ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين»(النحل: 80)، إشارة إلى صناعة الملابس، وقوله تعالى: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا (هود: 37)، إشارة إلى صناعة السفن والمراكب.
- وفي الزراعة: يقول الله تعالى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه… (الأنعام: 142)، وقال تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا (عبس: 24-30)، وهذه الآيات ومثيلاتها إشارة إلى التنمية الاقتصادية عن طريق الفلاحة، قال رسول الله : «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» البخاري.
- وفي التجارة: نجد القرآن الكريم في معرض الامتنان على قريش، يتحدث عن تيسير الله لهم رحلتي التجارة في الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، وأن ذلك يستوجب منهم عبادة الله تعالى، والاعتراف له بهذه النعمة، قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (قريش: 1-5)، ويذكر القرآن الناس بفضل الله تعالى عليهم في تيسير وسائل النقل وتسخيرها لهم ليتم بواسطتها تبادل تجاراتهم وتحقيق منافعهم، قال تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (النحل: 8)، قال رسول الله «التاجر الصدوق الأمين مع النبيئين والصديقين والشهداء يوم القيامة»(الترمذي).
الإسلام يدعو الإنسان المسلم أن يحسن العمل ويتقنه، وفي ذلك يقول الله تعالى: وأحسنو إن الله يحب المحسنين (البقرة: 194). والإحسان درجة من الكمال فوق العدل الذي هو التوازن بين الأخذ والعطاء. الإحسان يتحقق عندما يتقن الإنسان عمله، وعندما يقدم من جهده وماله أكثر مما يحصل عليه من الأجر، ينتج أكثر مما يستهلك، ويعطي أكثر مما يأخذ، ويسعى دائما إلى عمل الأفضل والأجود، ليس الإحسان صدقة تعطيها لفقير أو محتاج فحسب، ولا لقمة تدفعها إلى جائع، الإحسان يكون في الإنفاق من الحلال، ويكون في القول والعمل، وفي كل تصرف يأتي به الإنسان، قال : «إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه» البيهقي.
المؤمن حريص على فعل ما يحبه الله تعالى، حريص على كسب مرضاته، حريص على مثوبته، حريص من أجل ذلك على إتقان عمله، حريص على البعد عن المعاملات المحرمة والمشبوهة، قال : «إن الله لاينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(مسلم).

ذ. أحمد حسني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>