لآلئ وأصداف – ساعة مع مولود معمري


دخلت عليّ ابنتي أروى، وهي تلميذة في الثانوي، تقول: أبي، ليس كل الكتّاب الفرونكفونيين سيئين. أليس كذلك؟ هذا ما أخبرتني به الأستاذة. قلت لها: علّمنا الإسلام عدم التعميم في الأحكام، فلذلك نجد القرآن الكريم يتحدث عن الناس، أو عن الفئات المخالفة، كاليهود والنصارى، فيقول: ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ، ولكنّ أكثر الناس… أو ما شابه ذلك، ولم يقل: (ولكنهم لا يعلمون)، ويقول تعالى: ليسوا سواءً، من أهل الكتاب أمّة قائمةٌ يتلون ءايات الله ءاناء الليل وهم يسجدون . وكذلك هو شأن الأدباء والكتاب، مهما اختلفت لغاتهم التي يعبرون بها. فمن كتّاب العربية طيب وخبيث، ومن الفرونكفونيين أيضا طيب وخبيث. من الفرونكفونيين من ينتصر لأمته وحضارتها، ومنهم من لا يعنيه إلا التودد لأهل اللغة التي يكتب بها، حتّى وإن شوّه تاريخ بلده، وافترى على دينه، إن جهلا وإن قصدا، كالروائي الذي صوّر صلاة الجنازة، وجعل الإمام يركع، فقط لأنّه كان امرأة متنكرة، وليجعل الكاتب ذلك مدخلا إلى منكراته.
وما دام حديثنا عن روائي جزائري، فيكفي أن نذكر -من الفرانكوفونيين- المالكَيْن: الروائي والشاعر مالك حداد، والمفكر المتفكّر والفيلسوف مالك بن نبي. فكلاهما سخر قلمه لخدمة شعبه وأمّته.
في عام 1989 ضمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة ندوة في موضوع: (الأدب بين المحلية والعالمية)، حضرها، بالإضافة إلى الباحثين والأدباء المغاربة، نظراء لهم من الجزائر، وكان من أبرزهم الكاتب الفروكوفوني مولود معمّري، الذي درَس بالمغرب فترة من الزمن، قبل أن يعود إلى الجزائر لمتابعة دراسته، ثم لينتقل إلى باريس. وهو ليس من الذين لا يتحدثون العربية فقط، بل هو من أهمّ المنظرين للأمازغية يوم كان مقيما بفرنسا، وكان يصدر مجلة AWAL، أي الكلمة، بالأمازيغية. وقد عاد بعد انصرام أعمال ندوة وجدة إلى بلده بالسيارة، فتعرض لحادث أودى بحياته، عند منطقة عيد الدفلى بالغرب الجزائري.
أذكر أن إذاعة طنجة، خلال الندوة، أرادت أن تجري معه حوارا من قاعة الندوات، فاتصل بي الزميل عبد اللطيف بنيحيى في هذا الشأن، فرافقت مولود معمري إلى حيث يكون اللقاء الهاتفي. كان اللقاء محرجاً جدا. فقد كانت الأسئلة بالعربية، وكان معمري يقول لي بالفرنسية: لا أفهم. فأحاول أن أكون مترجما، ولكن بنيحيى كان يصر على ألا يكون هناك وسيط بينه وبين الضيف. وهكذا كان ذلك أغرب لقاء إذاعي، حيث لم يفهم الضيف سؤالا واحدا، ولم ينطق كلمة واحدة بالعربية، وكانت الأسئلة كلها بالعربية، وما أدري ما كان مصير تلك الحلقة.
مولود معمري روائي من أهمّ الروائيين الفرونكفونيين المخضرمين في المغرب العربي، أي الذين كتبوا في الفترة الاستعمارية وما بعد الاستقلال، ففي الجزائر كانت أسماء كلّ من مالك حداد ومولود فرعون وكاتب ياسين، بالإضافة إلى معمري، ملء السمع والبصر. ومن روايات معمري الشهيرة رواية (الربوة المنسية La colline oublié)، تلك الرواية التي أشاد بها طه حسين كثيرا، فعرّف قرّاء العربية بهذا الكاتب الذي يكتب بالفرنسية.
وأثناء حديث بيني وبين معمري، قلت له: أتعلم أن في روايتك (الأفيون والعصا) نفَسا إسلاميّا؟ فنظر إليّ متعجّبا، وقال: صحيح؟ لم أكن أعرف ذلك.
لم أكن أجامله، ولم يكن هو بحاجة إلى المجاملة، حيث لم يكن مهتمّا أصلا بشيء اسمه إسلامية الأدب. ومع ذلك فإن الرواية -التي صدرت بالفرنسية طبعا، في حجم كبير- مليئة بالمواقف التي هي ناطقة بالنفس الإسلامي، بل بما هو أكبر من ذلك: التوجه الإسلامي. لم يكن ذلك يعكس رؤية الكاتب وتوجهه الفكري، ولكن لأنه كان حريصا على واقعية الرواية، وكانت الثورة الجزائرية إسلامية المنطلق والأهداف، كبقية الحركات التحررية في العالم العربي والإسلامي، كان لابدّ من الحفاظ على تلك الروح، انسجاما مع الواقع. وقد حوّلت الرواية إلى شريط سينمائي، من إخراج المخرج الفذ محمد لخضر حامينة، وتمثيل كلّ من الراحل سيد علي كويرات، رحمه الله تعالى، والممثل الفرنسي جان لوي ترانتينيون. ولعله للقيم الإسلامية التي يحملها الشريط، اختار المشرفون على ملتقى الفكر الإسلامي الشهير، والمأسوف عليه، في دورته السادسة بالجزائر العاصمة، عام 1972، عرضه في أعمال الملتقى.
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، نعرض لما تحمله رواية/شريط (الأفيون والعصا) من القيم الإسلامية النبيلة.

يلتقطها د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>