العامل في الإسلام بين الحق و الواجب


ذ. ميلود خطاب * 

بادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى أن الإسلام يدعو إلى العمل، ويحارب التواكل والتبطل، فنصوصه تكرم العامل وتعلي من شأن العمل، فعن أبي هريرة أن رسول الله  قال: “والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه”(1). وهذا من تكريم الإسلام للإنسان، ويزيد الإسلام على هذا ففي الحديث: “من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له”(2)، فهل من فضل بعد هذا للعمل والعامل، كرامة في الدنيا ومغفرة للذنوب في الآخرة، بعدما كان العمل في بعض الحضارات يعني الرق، ويحمل معنى المذلة والدونية، فجاء التكريم من شريعة العدل، وجاءت الحقوق شاملة كاملة، وجاءت معها الواجبات جنبا إلى جنب تحقيقا للتوازن في المعاملات، وإحلالا للعدالة الاجتماعية بين الناس.

ثم إن الكلام عن العمل في الإسلام لا ينفك بحال عن موضوع الحق والواجب، كما لا ينفك عن الحديث عن التعاليم والقواعد الشرعية المنظمة له، والملزمة لطرفيه، إذ لا بد للعمل من مؤجر وأجير، إذ ليس الكلام هنا عن العمل بالمفهوم التعبدي المحض، المذكور في كثير من الأدلة الشرعية التي كثيرا ما يحتج بها خطأ أو تمحلا في ما نحن بصدده، كما أن الكلام فيه أيضا لا يعرف تمييزا بين الذكر والأنثى من حيث الاستحقاق، فالحقوق حقوق والواجبات واجبات، ومن أدى واجباته استحق حقوقه بلا نظر إلى ذكورة أو أنوثة.

لأجل ذلك سنذكر شيئا من الحقوق والواجبات الأصيلة باختصار، لأن ما تتغياه هذه العجالة هو الإشارة إلى الخلل الحاصل في تصور الناس لمعادلة الحق والواجب، وقد ذكر الإسلام من حقوق العامل ما جعل شريعة العدل أسبق من القوانين الوضعية في هذا الباب، والكلام سيكون أولا عن الواجبات.

ولعله من الأفيد هاهنا البدء بالإشارة إلى مفهوم الواجب قبل التمثيل له، لأن ذلك مساعد على تناول القضية بعمق، فالواجب في أصل اللغة : اللازم بمعنى الثابت، والساقط اللازم، قال ابن فارس:” الواو والجيم والباء: أصل واحد يدل على وقوع الشيء وسقوطه، ثم يتفرع. ووجب البيع وجوبا: حق ووقع. ووجب الميت: سقط، والقتيل واجب. وفي الحديث: “فإذا وجب فلا تبكين باكية”، أي إذا مات “(3)..

فالشيء الساقط يلزم محله، ومنه قوله تعالى : فإذا وجبت جنوبها أي سقطت على الأرض بعد النحر كما في التفسير، واللازم في الاستعمال بمعنى الواجب(4)، وحاصله أن المتضمن في شروط العمل لازم للعامل لا تبرأ الذمة إلا بالوفاء به على الوجه المتفق عليه، فهو دين.

ومن آكد الواجبات التي ألزم الإسلام بها الناس في العمل: “الإتقان” وهو ركن الأركان، وواجب الواجبات، وغيره متعلق به راجع إليه، فالعامل ملزم شرعا بإتقان عمله على الوجه الذي يرضي مشغله على وفق شرطه، قال تعالى والعمل الصالح يرفعه (5)، وفي الأثر “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”. ثم “الأمانة” فإنه لا بد أن يكون أمينا في عمله، قال تعالى: إنّ خير من استاجرت القوي الامين (6)، ويكون العمل أتم مع القوة، ولا يكون القوي الأمين إلا عارفا بدقائق عمله متقنا له، وقد جاءت السنة مصرحة بذلك حاثة عليه، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي  قال “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”(7)، والإتقان قرين القوة والأمانة، وعدو الغش والغل. والعامل علاوة على ذلك ملزم “باحترام إرادة المشغل”، فمن الإتقان احترام الأجير لإرادة المؤجر وإنجازه العمل على الوجه الذي يريده، إذ تظل إرادته تابعة لإرادة مؤجره حتى يتم عمله، ولو خالف في ذلك فقد أخل بآكد الواجبات، وعلق استحقاقه لحقه. ومن آخر الواجبات وأهمها “إنجاز العمل في الوقت المتفق عليه”، وذلك شرط لأنه مما يتفق عليه أولا، وقد قال النبي : “المسلمون عند شروطهم”(8)، وإنجاز العمل في أجله المحدد له هو من الإتقان كذلك، وإخلاف الوعد فيه نفاق وإخلال بالإتقان كما جاءت به السنة الشريفة.

أما الحق ففي مفهومه قال الرازي رحمه الله: “الحَقُّ ضد الباطل والحق أيضا واحد الحُقُوقِ … وحَاقَّهُ خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق، فإذا غلبه قيل حَقَّهُ، والتَّحَاقُّ التخاصم … ويقال حُقَّ لك أن تفعل هذا وحققت أن تفعل هذا، بمعنى وحُق له أن يفعل كذا وهو حَقِيقٌ به ومَحْقُوقٌ به، أي خليق به والجمع أحِقّاءُ ومَحْقُوقُونَ، وحقَّ الشيء يحق بالكسر حَقَّا أي وجب وأحَقَّهُ غيره أوجبه، واستَحَقَّهُ أي استوجبه (9). فحاصل الحق ما صح للمرء المطالبة به شرعا وعرفا، ووجب على الغير بذله له من المصالح، والملاحظ أن معناه لصيق بمعنى الواجب، فيكون ما استحقه طرف قد وجب على الثاني، فحق العامل ما وجب على مؤجره، فلا فصل بين الحق والواجب.

وحقوق العامل في الإسلام أعرف من أن تذكر، ولكن أمر التوازن يقتضي ذكرها، حتى لا نعوذ على غزلنا بالنكث، وإن كنا قد قدمنا الكلام في الواجبات على الحقوق، فإن ذلك اقتضاه واجب الزمان وغياب ثقافة الواجب، ولذلك حق لنا القول “العامل في الإسلام بين الواجب والحق”(10)، وأول الحقوق “حيازة الأجر عند انتهاء العمل”، فمن آكد حقوق الأجير أن يستلم أجره بمجرد انتهائه من عمله وفق النظام المحدد، سواء كان التحديد بالعمل أو الزمن، فإن كان الأول فبمجرد إنهاء العمل يستحق العامل الأجر، وإن كان الثاني فإما بالساعات أو الأيام أو الشهور، قال رسول الله  “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”(11)، وهذه التفاتة عميقة عجيبة إلى حق الأجير، بل هي تكريم له وأي تكريم. ثم إن هذا “الأجر لا بد أن يكون بالعدل”، قال تعالى: ولا تبخسوا الناس أشياءهم (12)، أي لا تنقصوهم أموالهم، فعلى المؤجر أن يكون عادلا في تحديد الأجرة، إذ لا بد من مكافأة الأجرة للعمل، ومخالفة ذلك جور وظلم في حق العامل، هذا بخصوص الأجر، أما ما هو لصيق بذات العامل فإنه “لا يجوز تكليفه ما لا يطيق”، فعن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي : يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم (13)، “ثم السماح له بأداء فرائضه” كالصلاة والصيام مثلا، فلا يجوز منعه منها، وهو لعمري -أي تدين العامل- في صالح رب العمل، وقد يخطئ الحساب كثيرون حينما يضيقون على الناس في أداء الصلوات المفروضات، بدعوى أن ذلك خصم من وقت العمل، ونسوا أن أثر ذلك على العامل والعمل أعمق مما يتصورون، لأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويربي على الصدق والإخلاص واستشعار رقابة الله تعالى في العمل، ولا كفيل به إلا الله. هذا وذكرت هذه الحقوق على سبيل المثال لا الحصر.

بعد هذا التمثيل لحقوق العامل وواجباته أدلف إلى لمع في محاولة تقويم الفكر المتحكم اليوم في معادلة الحق والواجب، وقد سلف أن للناس خللا في طرفي تلكم المعادلة، فبعدما ضاعت الحقوق جاءت ردة الفعل متجازوة حدها الطبيعي من قبل فئة من أصحابها، فكان الخلل وكانت المشكلة، وكان لذلك أسبابه، إذ يرجع الأمر أولا إلى “ضعف الوازع الديني”، فالعامل الذي يحكم شرع الله في حياته لا يضيع ما عليه من واجبات، لأنها حقوق غيره عليه، ومن لم يمنعه تدينه من ذلك فلا راد له عن غيه، ثم إن “عموم البلوى بأكل الحقوق” في هذا الزمان عامل آخر متسبب في الخلل، فشيوع هضم الحقوق أثار ثورة الرغبة في استردادها، فتفشى في الناس فكر المطالبة بالحق على حساب الواجب، وحصل الفصل المقيت بينهما، فكان الناس بين جاف في بذل الحقوق، ومغال في تضييع الواجبات، ولم يقف الأمر عند هذا، بل امتد إلى التربية، فزاد الطين بلة تمرير ذلك إلى النشء “بالتربية على ثقافة الحقوق دون الواجبات”، وتدخلت في ذلك عوامل أخرى يرتبط بعضها بما ذكر بشكل أو بآخر.

ولما اجتمعت هذه العوامل لتسبب الخلل كان الذي كان، وكانت له تجلياته في فكر الناس،  وآثاره في السلوك والمعاملات، فمن مظاهره الدالة عليه في الواقع: “تضخم ثقافة الحق وغياب ثقافة الواجب”، وذلك حين حصل تغييب الواجب من كلا الطرفين ـــــ والحديث عن تغييب الواجب يعنى به كلا الطرفين ـــــ، فالمطالب بالحق ينصرف كامل اهتمامه إلى حقوقه، ولا يكلف نفسه مراجعة ذاته فيما عليه من واجبات، ويتجاهل أن الحق لا يسمى حقا حتى تبرأ ذمة صاحبه مما شغلت به من حقوق الغير، وإلا فهو الحق الوهمي، وأكثر ما تطالب به من الناس أوهام لا حقوق.

ومن تجليات ذلك أيضا ظهور التمثيليات والنقابات العمالية، التي تخصصت في المطالبة بالحق، ولم يعرف عنها أبدا أنها يوما حثت العمال على الوفاء بواجباتهم في بيان لها أو توجيه، وليس هذا الكلام عيبا لمن يطالب بالحق، ولكن العيب أن يتفنن في اصطناع الحقوق، ويغض الطرف عن الواجبات غضا تاما، وهو خلل في الفكر والمنهج، لا يمكن التخلص منه حتى ينظر العامل أو المطالب بالحق؛ سواء فردا أو مؤسسة أو تمثيلية إلى الواجب نظره إلى الحق، حينذاك يكون الحق حقا، ويكون الحق شرعا.

إنها في الحقيقة أزمة فكر ومنهاج، أزالت من النفوس إدراك خطورة قضية الحق والواجب، ولا مناص من معالجتها، ولا سبيل إلى غير أن يعلم العامل أن الحق والواجب عقيدة لها ثمرة، من جهة أنها مرتبطة بالحساب والجزاء، فالوفاء بحقوق الغير دين، ومن جهة أنها مرتبطة بالآخر، بل لا تكون إلا به، وقد علم أن حقوق الله مبنية على العفو، وحقوق العباد مبنية على المشاحة، ومن يعي هذه الجزئية العظيمة لا بد أن يستكبر الأمر، ويعلم أنه لا طاقة له بمطالبات العباد يوم القيامة، فيقدر واجباته قدرها، وهذا جزء من العلاج.

ثم أن يعلم العامل أن “ضياع الحق لا يبيح تضييع الواجب”، فكون رب العمل ضيع حق العامل لا يبيح لهذا الأخير أن يغل أو يغش في العمل، أو أن يأخذ حقه بطريقة ملتوية، بل عليه أن يفي بالواجب حتى يظل صاحب حق، وإلا فإن تضييع الواجب يصيره  كمن لا حق له.

ثم أن يعلم أن “الحقوق لا تنفك عن الواجبات”، فما إن تجمع بين الطرفين معاملة عوضية حتى يترتب عليها لكل منهما حقوق وواجبات على بعضهما، ولا نعني بالمطالبة بالحق دائما الأجير وحده، لأن المؤجر قد يطالب الأجير بما عليه من الواجبات في صفة العمل، ولا يعطيه ما استحقه من الأجر، كما الأجير قد يطالب مشغله بحقوقه ولا يفي هو بوجباته، خصوصا إذا تعلق الأمر بالأجير مع الدولة، ذلك “الشخص المعنوي” مهدور الحق عند ضعاف أو معدومي الإيمان، الذين يضيعون الواجبات ويحسبون أن ذلك لا يكون إلا بين شخصين، وما أكثر هذه الفئة من موظفي الدولة والله المستعان.

ومما يساعد على علاج الخلل أن يعي المسلم أن “ضياع الواجب يوجب الإثم”، وتفويت الحق لا يوجبه، وقد سلف أن حقوق الله مبنية على العفو، أما حقوق العباد فإنها تشغل الذمم، وتضييعها إثم يقود صاحبه إلى الاحتقاق في الدنيا، ويعرضه للعقاب في الآخرة، لذلك قلنا إن الحقوق والواجبات دين، لأنها جاءت بها تعاليم الشرع فهي من تكاليفه، قلت:”ولأن أهدر حقا من حقوقي أحب إلي من تفويت واجب شغلت به ذمتي”.

وكذلك أن يدرك الناس أن “الواجب أصيل وأنه أسبق من الحق”، لأن الحق لا يحقق مسماه حتى يتأسس على الوفاء بالواجب، فعن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله  يقول “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته” (14)، فارع واجباتك أولا ثم طالب بحقوقك ثانيا، تحفظ كرامتك وتبرئ ذمتك أمام الله.

وفي الختام هذه محاولة لتسليط الضوء على مسألة الحق والواجب، وبيان مكامن الخلل في تصورها، وهذه كلمات الحق، وأنوار الهدى ترسم ملامح إبراء الذمم من حقوق الغير، فمن لها من أيقاظ الضمائر، ومن يتلقاها من المومنين المخلصين، والحمد لله رب العالمين.

————–

1 – رواه مالك في الموطأ، باب ما جاء في التعفف عن المسألة.

2 -  أخرجه الطبراني في الأوسط، تحت رقم (7520)، وقال فيه الحافظ الزين العراقى : سنده ضعيف .

3 – مقاييس اللغة، باب (وجب) .

4 – التعريفات، باب اللام (ص: 244).

5 – فاطر: الآية 10.

6 – القصص: الآية 26.

7 – حسن، رواه البيهقي في شهب الإيمان.

8 – رواه البخاري في الصحيح.

9 – مختار الصحاح، باب الحاء : “حقق”.

10 – وقد عدلت عن هذا الترتيب في العنوان لكي لا أتهم بعداء الحق في زمن هضمت فيه الحقوق حقا، كما ضيعت فيه الواجبات تحقيقا.

11 – قال في بلوغ المرام : “حديث صحيح بشواهده، رواه ابن ماجه (2443) بسند ضعيف جداً”.

12 – الشعراء: الآية 183 .

13 – رواه البخاري في الصحيح.

14 – رواه البخاري.

————-

* باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>