مع سيرة رسول الله – من هدي النبي في التربية


إن الرسول بعثه ربه تعالى بدين الفطرة ومنهج الفطرة {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} وابن آدم خلقه تعالى من قبضة من طين ونفخة من ربه وجعل سره في قلبه «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» فالقلب هو محرك الجوارح في اتجاه الخير أو الشر، والقلب محل نظر الله تعالى وحده لا يطلع عليه ولا يعرف ما فيه إلا هو سبحانه. ولا سلطان لمخلوق عليه. والرسول كلفه ربه بالبلاغ المبين «إن عليك إلا البلاغ» وعلمه أسرار التأثير في القلوب.
لكن أمر الهداية من مشيئة الله {يهدي من يشاء} وأمر اختيار العبد {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر}.
والقلب حين يرتوي بغيث الوحي يزكو وينمو وينبت ويزهر.
ومهمة الرسول إرشاد القلوب المستجيبين إلى أحسن وسيلة للنهل والارتواء من الوحي وأفضل وسائل التزكية والسلوك للوصول إلى أرقى درجات الكمال البشري حتى يصيروا نماذج قريبة من نموذج عبد الله الأول ورسوله الأكرم في فقهه وحكمته وجهاده.
بناء على ما سبق فقد اعتمد في تزكية أصحابه يقوم على طريقة السياقة وليس القيادة وعلى تخريج خريج المجتهد.

-السياقة لا القيادة :
والمقصود أن الرسول في تربيته لأصحابه لم يكن يقودهم بلجام يسحبهم به سحبا، وهم وراءه مشدودين إليه : إن أسرع أسرعوا وإن أبطأ أبطؤوا وإن مال مالوا…ومن يطيق فعل رسول الله ؟ ثم إن الصحابة أصناف مختلفة الطباع متفاوتة المؤهلات، لذلك فقد كان يسوقهم سوقا رفيقا مراعيا قدراتهم حتى يعطي الفرصة لكل واحد منهم ليظهر اجتهاده ويبرز طاقاته ويعبر عن إمكاناته دون حواجز ولا معوقات، وهو يزكي فيهم كل توجه إلى الخير ويشذب كل ما يعلق بهم من شوائب.
فإذا لاحظ أن بعضهم قد أبطأ عن فعل خير محمود نبهه وبالرفق أرشده كقوله صلى الله عليه وسلم في الشاب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما لاحظ أنه مقصر في قيام الليل -وما أدراك ما قيام الليل- قال : «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» (متفق عليه). فما ترك عبد الله قيام الليل بعدها وكان لا ينام من الليل إلا قليلا. فانظر إلى فطنة المربي الذي لا يغفل عن متربيه بل يطلع على كل أحوالهم حتى في خاصة أنفسهم، وانظر إلى طريقة النصح الرفيق «نعم الفتى عبد الله» دون تقريع ولا توبيخ! وانظر إلى إحدى وسائل التحلية بالفضائل» لو كان يقوم من الليل» ثم انظر إلى النتيجة «فما ترك عبد الله قيام الليل بعدها».
وبالمقابل إذا علم أن بعضهم أراد أن يشذ عن جماعة إخوانه فينبت عن عصبة أهل الحق وينتبذ عن جسد أهل الإيمان يتدخل عليه الصلاة والسلام بطريقة حاسمة صارمة ليمنع ذلك لما فيه من خطورة «فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
«وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». ألم تر كيف عالج رسول الله تصرف الرهط الذين جاؤوا يسألون أمهات المؤمنين عن عبادة رسول الله فلما أخبرنهم كأنما تقالوها ورأوا أنها يسيرة ثم قالوا لأنفسهم : أين نحن من رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (متفق عليه).
بأبي هو وأمي! ما أعظم هديه لقد رأى أن الموضوع خطير فأراد أن يعالجه بسرعة حتى لا يسري هذا الخلل في الفهم إلى غيرهم. فبين لهم أنه إذا كان المراد القرب من الله والدافع خشية الله، فإنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله وأخشاهم لهم وأقربهم إليه، ولن يطيق أحد أن يقترب من مقامه السامي عند ربه، بله أن يصل إليه، وهديه في العبادة الوسطية والاعتدال وهي الفطرة : «أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء». فمن أراد السير على خطاه فهذا هديه وهذه سنته، ومن ابتدع في الدين أمورا ليست منه فهي رد. لذلك حسم كلمته بقول في غاية الصرامة «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
هكذا نرى أن الرسول المربي عليه الصلاة والسلام يسوق أصحابه في مدارج المنيبين إلى الله وعينه عليهم ينبه الغافل المتباطئ ليلحق بإخوانه، ويرد الشارد المنبت ليعود إلى إخوانه.

-التربية النبوية تربية منهاجية :
إن الرسول لم يكن يربي أصحابه ليكونوا حفاظا يكدسون النصوص فقط، بل ليكونوا فقهاء يفهمون ما حملوا ويجتهدون وفق هداه، إنه عليه الصلاة والسلام يربي قادة الدنيا الذين ستفتح لهم الأرض مشارقها ومغاربها وتسلم لهم الأمم والحضارات مقاليدها ليقودوها إلى خير الدنيا والآخرة وليكونوا شهداء عليها.
فهل يشهد الضعيف أو الخامل البليد؟! إن الناس إن لم يروا أنك أقوى وأعلم وأحكم وأصبر، لم يسلموا لك أمرهم أبدا، لذلك فقد صنع رسول الله رجالا استحقوا الشهادة على الناس وريادة الأمم بما اكتسبوا على يديه من مهارات وما تخرجوا به من مدرسته من مهارات ورحم الله ربعي ابن عامر إذ قال في مجلس أحد أكبر حكام الأرض في زمانه رستم قائد الفرس «نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وجور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة». ولم تكن تلك دعوى بل حقيقة. وأصلها في نموذج مشرف من نماذج الصفوة من خريجي مدرسة محمد وهو سيدنا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه حين أرسله رسول الله إلى اليمن أميرا وقاضيا وداعيا. سأله عليه الصلاة والسلام «بم تقضي يا معاذ؟» لم يسأله : كم يحفظ؟ لم يسأله سؤال الكم، بل سؤال الكيف، وهو سؤال منهاجي إنه يريد أن يتأكد هل استبطن معاذ منهاج النبوة بين جنبيه؟ إنه يقدم على قوم أهل كتاب وحضارة هم أهل اليمن، وإذا لم يكن قادرا على الاجتهاد في حل المشاكل التي تعرض له، فلن ينجح في هذه المهمة العظيمة الشاقة.
إن أهل اليمن سيعرفون الإسلام من خلال معاذ وهذا أمر جلل إذ عليه أن يريهم صورة الإسلام الحقيقية في كل مظاهرها وبكل أبعادها وهذا أمر لا يطيقه الحافظ فقط بل لا يحمله إلا الحافظ المتمكن الفقيه المحقق، الحكيم المتخلق، المجاهد الصادق.
لذلك أجاب معاذ : قال : أقضي بكتاب الله. قال عليه الصلاة والسلام : فإن لم تجد في كتاب الله، قال معاذ : فبسنة رسول الله . قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله، قال : أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله»(أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي).
هذا نموذج من نماذج خريجي المدرسة النبوية، وهذا نموذج من روائز التخرج منها وذاك نموذج من مسؤوليات الخريجين من مدرسة محمد .

د. يوسف العلوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>