مع سنة رسول الله – توجيهات نبوية للتعامل مع الدنيا


عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >…فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم…ولكني أخشى أن تفتح عليكم الدنيا….. فتلهيكم كما ألهتهم<(1).
وسبب ورود هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين التي كان قد صالح أهلها على مال يدفعونه وأمّـر عليهم العلاء بن الحضرمي فرجع أبو عبيدة بأموال، ولما سمعت الأنصار بقدومه وافوا صلاة الصبح مع رسول الله فلما قضيت الصلاة انصرف عليه الصلاة والسلام فتعرضوا له فتبسم حين رآهم …فقال : ((فأبشروا وأمِّـلوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ….)) الحديث. افتتح الحبيب صلى الله عليه وسلم حديثه مع أصحابه رضوان الله عليهم بالبشارة وفتح لهم باب الأمل لتزول العوائق ويكونوا أكثر استعداداً للسماع وأكثر استيعاباً لما سيلقي إليهم من العلم والهدى والنور … ثم أقسم عليه الصلاة والسلام : ((…فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم…)) وهذه الجمل كلها جاءت بصيغة المخاطب: عليكم، من قبلكم، فتنافسوها، فتهلككم… والمخاطبون هم الأنصار (ض)، ولكن هل يحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم ليصدقوه؟ بالتأكيد لا، فما الداعي إلى القسم إذن؟. إن الفقر تترتب عليه مشاكل كبيرة في معاش الناس ولكنه لا يمثل مشكلة في الدين إلا أن يكون منسياً. والغنى إكرام وتنعيم من وليّ كل النعم سبحانه، ويجعل حياة الناس أكثر سهولة ولا يمثل مشكلة في الدين إلا أن يكون مطغياً. والحديث يلفت نظر المؤمنين إلى علاقة الناس بالغنى والفقر وأنهم -بما جبلوا عليه – يطلبون الغنى ولا يخافونه ويتعوّذون من الفقر ويخافونه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه : {النبيء أولى بالمومنين من انفسهم…}(الأحزاب 6) يعلمهم أن العكس هو الصحيح وأن خطر الغنى أقرب والتاريخ خير شاهد. ولم يقارن رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر بالغنى ، فلم يقل صلى الله عليه وسلم : ((… ولكن أخشى عليكم الغنى..)) وهذه المقارنة -أي بين الفقر والغنى- أسالت الكثير من الحبر وكانت موضوع خلاف كبير بين علماء المسلمين :” أيهما أفضل “؟ ولو قال صلى الله عليه وسلم : ((ولكني أخشى عليكم الغنى :”لكان قد حسم الأمر ولم يعد هناك معنى للخلاف. إن الحديث قارن بين الفقر وبين فتح الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بلغة القرآن الكريم يستعمل أدق العبارات يجلي كل ما فيها من دلالة الخطاب ومن الإشارات .. إن عبارة : “تفتح عليكم الدنيا” عبارة مخيفة خصوصاً لمن أُشِربوا لغة القرآن الكريم … ألم تر إلى قول الله تعالى : {… فلما نسوا ما ذُكّـِروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}(الأنعام : 44- 45). وفي الرواية الأخرى للحديث جاء قول الحبيب صلى الله عليه وسلم : ((… ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم..))، وبسط الدنيا والأرزاق مما لم تتعلق به مشيئة العليم الخبير لما يعلم من آثارها السيئة على العباد، قال تعالى : {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير…}(الشورى : 27). ويلاحظ في الحديث التتابع بين الأحداث بحرف الفاء المفيد للسببية : تفتح لهم الدنيا، أو تبسط عليهم الدنيا، يدفعهم إلى تنافسها، وتنافسهم يأذن لها بإهلاكهم. وفتح الدنيا أو بسطها مبني لما لا يُعلم فاعله، وتنافسها مسند إلى المؤمنين، والإهلاك مسند إلى الدنيا: عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض”(2). إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا أخشى..)) – أي الفقر- وقوله صلى الله عليه وسلم (( … أخشى …))- أي فتح الدنيا وبسطها على المؤمنين- يفيد نوعاً من التقابل في تفكير المؤمنين بين ما يخشاه صلى الله عليه وسلم عليهم وما لا يخشاه عليهم، وإن التقابل في التفكير ينتج عنه حتماً تقابل في السلوك مما يجعل جهود الأمة يضيع بعضها في مقابل بعض. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال : ((سيصيب أمَّتي داء الأمم، قالوا: يا نبيَّ الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشَرُ والبَطَرُ، والتَّكاثر والتشاحن في الدُّنيا، والتَّباغض، والتَّحاسد حتى يكون البغي ثمَّ الهرج)). إن شدة حب الإنسان -كل الإنسان- للمال بالجبلة والطبع ينتج عنه بداهة حبه للغنى وتمنيه له والسعي الحثيث لإحرازه، كما ينتج عنه أيضاً شدة الكراهية للفقر والخوف منه والسعي إلى توقّيه والاحتراز منه. وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء للتحذير من سنة كونية اجتماعية ماضية في الأمم، وهي سنة لم يستخلصها أحد علماء الاجتماع أو غيره ولكن أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تلقاه من وحي من لدن حكيم عليم، إنه تهذيب وتأطير لما في الطبع بما جاء به الشرع. إن قول الله تعالى : {الشيطان يعدكم الفقر ويامركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا…}(البقرة : 268) يتبيّن منه أن الفقر سلاح الشيطان يستعمله في الترهيب من الاكتفاء بالحلال ومن باب الأولى في الترهيب من الإنفاق في سبيل الله تعالى . وفي المقابل فإن الغني الكريم سبحانه لا يستعمل الغنى للترغيب في طاعته وإنما يعد المؤمنين بالمغفرة منه والفضل. وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسجم تمام الانسجام مع الآية الكريمة ويتماهى معها فهو يُكذّب الشيطان فيما يدّعيه وفيما يجرّ أبناء أمته إليه. إن الهلاك الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يمكن أن تكون له صور متعددة منها أن يصبح المال هو مقياس التفاضل بين المؤمنين فيُخسر الميزان بتمييز الناس وتصنيفهم في سلم الشرف على قدر ما يملكون منه حتى يصبح المال عاصماً لشريفهم مما لا يعصم منه وضيعهم … وفي قصة أسامة لما طلب الشفاعة للمرأة المخزومية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: ((…أتشفعون في حد من حدود الله وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد…))(3). وكذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإلهاء بدلا من الإهلاك في قوله صلى الله عليه وسلم : ((…فتلهيكم كما ألهتهم..)) والإلهاء شديد الخطر لأنه يستهلك هذا العمر بسرعة فائقة لا ينتبه صاحبه إلا وهو على باب حفرة القبر قال تعالى : {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر…”(التكاثر : 1). قال تعالى : {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيء إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم…}(الحج : 52- 53). إن ما يلقي الشيطان في تلاوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يزيله الله تعالى ويحكم آياته وما يلقيه الشيطان في قلوب المؤمنين من الخوف من الفقر الذي يدفع إلى تجاوز الجائز والحصول على المال بأي حال من الأحوال يزيله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث وما فيه من الحق الذي أقسم عليه وهو الصادق المصدوق الذي لا يحتاج إلى قسم.

د. لخضر بوعلي
—————–
1- صحيح البخاري كتاب المغازي وصحيح مسلم وسنن ابن ماجة والبيهقي والسنن الكبرى ومسند الإمام أحمد
2- صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
3- إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام كتاب الحدود باب حد السرقة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>