شهـرُ الصّبْـر والصِّـدق


قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : ((كُلُّ عَمَل ابن آدَم يُضَاعَف : الحسنَةُ بِعَشْر أمْثالها إلى سبْعِمائة ضعْفٍ. قال الله عز وجل : إلاّ الصّوم فإنَّهُ لي وأنا أجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي))(الشيخان وغيرهما).

يتجلّى صِدْق الصائم الذي يشْهد الله عز  وجل لهُ به فيما يلي :

1- في حبْس النّفْس عن الطعام والشراب بمراقَبةٍ ذاتيِّةٍ، حيثُ إن الإنسان يمكنُ أن يأكُلَ ويشربَ بدون أن يراه أحَدٌ، ولكنّ المسلم الصائمَ يجُوعُ ويظمأُ والطعامُ والماءُ أمامَهُ، ومَع ذلك يصْبِرُ حتى يَحِلَّ تناوُلُ الطعام والشراب طاعةً وامتثالاً لأمْرِ الله تعالى فقط، بدون أن يَضَعَ في اعتباره سُلطة أبٍ، أو أخٍ أكبرَ، أو سلطةًَ حاكم، أو سلطةَ زوج أو زوجة… وبدون أن يضع في اعتباره رضا فلانٍ أو علاّن. وإنما هُو جائعٌ ظامئٌ لله تعالى. ولو تجَرَّأ أحدٌ من الكافرين أو المنافقين ووضَعَ الطعام والشراب بين يديه وأغْراه بالأكل والشراب لسخِر مِنْه ورفَضَ باعتزازٍ إيمانيٍّ مُتَشَامخٍ.

المسلمُ الصادِقُ لا يجِدُ أدْنَى حَرَجٍ في الصّبْر على مُعانَاةِ الجُوعِ والعَطش لله تعالى، ويظُنّ أنّ الأمْر سَهْلٌ ويسِيرٌ على كُلِّ إنسانٍ، ولكِنَّهُ لوْ اطّلعَ على ما يفْعَلُه كِبارُ قومنا من الظّلاميّين والدُّنيويّين في رمضان من المخازي والرّذائل لعَرَف نِعْمة الله عليه حَقّاً، وفضْل الله عليه حقّاً، ولعَرَف الحِكْمة في عُمْقِ الصِّدْق المجَسَّم في الصيام، ولعَرَف الحِكْمة المجسَّمة في عِظَم الجزاء والثواب. فلَمْ يجْعلْ الله عزَّ وجل جزَاءَ الصيام وثوابَه فوْق العدِّ والحصْر إلا لعِلْمِه بصعُوبته وشِدَّة ثِقْله على المنافقين والملحدين الشاردين عن هُدَى الله تعالى بحِقْد وإصْرار، وعنادٍ واستكبار.

ولقد مرّ علينا زمَنٌ -ليس بالبعيد- كان أساتذة الظلام، وشبابُ الظلام، وزعماءُ الفكر الإلحادي الظّلاميِّ.. يتعمَّدُون الشربَ في رمضان، والتّدخين في رمضان على مرأى ومسْمَع من العادي والبادي بدون نكير ولا رادٍعٍ من سلطة قضائية أو تنفيذيّة، وكان ذلك يتِمُّ وفْقَ هَجْمةٍ إلْحَادِيّة مُؤَدْلَجَةٍ تسْتَهْدِف محْوَ هُوِيَّة الأمَّة فمَحَا الله عز وجل -بفضله- دابِر هذه الفئة الضالَّة المضلّة، وتدارَك -بلُطْفه- شَبَابَ الأمّة الناهض، فأرْجَعَه للمسجد والقرآن والصيام بصِدْق وإخلاصٍ تمهيداً -إن شاء الله تعالى- للصّحْوة الكبرى، صحْوة العلم والفقه والدّعوة، وصحْوة حَمْل رسالة النور والصِّدق للعالمين.

إن الصّبْر على الجوع والظمإ تحدٍّ كبير يعلّم الأمة كيف تجابِهُ أخطار التجويع، وأخطار الحصار الاقتصادي الظالم، فهل يستطيع أن يفقه هذا العابدون لبطونهم وجيوبهم وأرصِدتِهِمْ؟!

2- حبس النفس عن شهوة الجنس : إن الشهوة تطلق على كل الشهوات، ولكن التنصيص عليها في الحديث وفي الدرجة الأولى، ثم بعد ذلك التنصيص على الطعام يجعلها منصرفة إلى الشهوة الجنسية التي لا يطيق الصبر عليها إلا من تسامى عن الغرائز الحيوانية بفعْل التزكية الروحية المشْحُونة من مخزون القرآن، ومخزون القيام والصيام، ومخزون الإيمان والإحسان، ومخزون العفة والتقوى والخشية من العظيم الجليل أهْل التقوى وأهل المغفرة.

وهذه المعانيّ كلُّها -أو بعضها- لا يفقهُها المتأجرون في الأعراض الذين يعملون على جَعْل الشعوب الإسلامية مواخيرَ ومستنقعاتٍ للفواحش والمستقذرات، إذْ بذلك يتسنَّى للكائدين والمتآمرين بَسْطُ السيطرة والنفوذ، ووضْعُ اليد على كُلّ مقاليد الأمة، ومقدَّراتها وثرواتها وتراثها وحضارتها، بَلْ يتسنَّى لهم التحكُّم في حاضرها ومستقبلها وجعْلها ضائِعة بدون هوية ولا رسالة ولا حضارة.

ألمْ تَر السياساتِ الإعلامية الغارقَة في وحَل التلميع للجسد المحنَّط كأنه صنَمٌ معْبُودٌ، ووَحَلِ التلميع للمَال والطّين على أنهما هدفان أساسان وحْدَهما في الحياة، من أجلهما تُراق الدماء، وتسفك الأخلاق، وتداس الفضيلة، وتُزوَّر الحقائق، وتُطْمس المقدسات.

وألَمْ تر الفَنَّ الهابط الذي يُسَوِّق الخلاعة والمجون في صفاقة مَقيتة ووقاحة سافرة؟!

وألمْ تر الغزْو المكشوف الذي يُسَوِّق الجَهْلَ واليأس والإحباط وكُلَّ أنواع الهزائم النفسية والفكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية حتى لا ترى الأمةُ إلا طريقا واحداً هو طريق الاستسلام للإملاءات الكفرية والنفاقية والالحادية؟!

فبالصيام الصادق يستطيع المسلمُ التحررَ من الشهوات المُذلة للرقاب، وبالصيام الصادق يطمَعُ المسلمُ في الجزاء الأوْفَى يوْم تقديم الحساب، بين يَدَيْ ربّ الأرباب، حامدين الله تعالى على النجاة من نار جَهَنَم وأَلِيم العذاب. سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثرِ ما يُدخِلُ الناسَ النار، فقال : ((الفَمُ والفَرْجُ))(رواه الترمذي).

أما الصدق الذي يُبلْوِرُه الصيام الصادق، فقد قــال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((علَىْكُم بالصّدق، فإن الصِّدْقَ يهْدِي إلى البِرِّ، وإنّ البِرّ يهْدِي إلى الجنَّة، وما يَزالُ الرّجُل يصْدُق ويتحَرَّى الصّدق حتى يُكْتَب عند الله صِدِّيقاً)).

ونهى صلى الله عليه وسلم عن الكذب فقال : ((وإيّاكُم والكَذِب، فإنّ الكذِب يهْدِي إلى الفُجُور وإن الفُجُورَ يهْدِي إلى النّارِ، وما يَزَالُ الرّجُلُ يكْذِبُ ويتَحَرَّى الكَذِبَ حتّى يُكْتَبَ عِند اللّه كذَّاباً))(رواه الشيخان وغيرهما).

ولقد جاء الشهر المبارك رمضان والأمة تخيم عليها السُّحب الدّاكنة من الكذب والثرثرة والتّنَطُّع والتَّفيهُق والتدْجيل، بدون أدنى أَمَلٍ جِدِّيٍّ في التخلُّص من مُسَلْسلات الإلهاء وإهدار الطاقات والثروات، ومعاكسة إرادتها وتحويل بوصلتها نحو المجهول.

وإذا كان الأمَلُ -لحد الآن- شِبْهَ مُنْعَدِم في إنقاذ الأمة من التردِّي المُوحِل، فإن الأمل مُنْعَقِد على الرجاء في الله تعالى الذي سيجعل هذا الشهر المبارك شهر الصدق والرضا والمغفرة، وتلك أهَمُّ الخطوات الناجحة لشق الطريق للفتوحات والانتصارات.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>