شرح الأربعين الأدبية(16)


في حثْوِ التراب في وُجُوه المدَّاحين

روى الإمام مسلم عن هَمَّام بن الحارث ((أن رجلا جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه- وكان رجلا ضخما – فجعل يحثو في وجهه الْحَصْبَاءَ. فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا رَأَيْتُم الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِم التُّرَابَ))(1).

وفي رواية أخرى أن سعيد بن العاص ((بعث وفدا من العراق إلى عثمان فجاؤوا يثنون عليه))(2).

ففيه أن المدح من لدن جماعة لمسؤول/لخليفة.

والنص بروايتيه السالفتي الذكر من قسمين:

حديث نبوي هو محل الشاهد.

وتطبيق له من لدن المقداد.

وقد ورد الحديث النبوي بروايات مختلفة:

ففي رواية ثانية عند الإمام مسلم ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ))(3).

وفي رواية عند أبي داود ((إِذَا لَقِيتُم))(4) بدل إذا رأيتم.

ولئن اختلفت الروايات في مطلع الحديث، وصيغة التكليف النبوي، فقد اتفقت في أمور:

أولها الحديث عن المداحين.

وثانيها استعمال اللفظ في صيغة المبالغة مسندا إلى جمع المذكر السالم. (المداحين)

وثالثها الموقف الرافض لسلوكهم.

ورابعها التعبير عن ذلك الرفض بحَثْو التراب في وجوههم.

وخامسها الخطاب الموجه لجماعة المسلمين.

وسادسها ربْطُ كلِّ ذلك برؤية المداحين أو لقائهم، أي بممارستهم العلنية للمدح، فتنتج عن ذلك معاينة بالرؤية أو اللقاء.

ومن تلك الأمور المتفق عليها نولي حديثنا شطر ثلاثة اتجاهات: اتجاه المداحين، واتجاه التراب، واتجاه الموقف.

أما لفظ المداحين فتُستفاد من صيغته أمور:

أولها المبالغة في المدح؛ لأن اللفظ في جميع الروايات ورَدَ بصيغة المبالغة (المدّاحين).

وثانيها انتشار المدْح؛ إذ الأمر يَتعلق بممارسة جماعية، لا بممارسة فرْد (اللفظ مسند إلى الجمع).

وثالثها أن المدْح صار ظاهرة؛ لأنه يُرى، ويمارسه جماعة، وهم يبالغون في المدْح.

وأما لفظ التراب فقد استُعمل في الحديث النبوي وسيلة لفِعْل الحثْو، وظاهر الحديث أمْرٌ للمخاطَب أن يُبادر بحثْوِ التراب في وَجه المادح، ومِنه يُفهم أنَّ حَثْو التراب طريقة للتعبير عن الموقف من ظاهرة المدح، والمبالغة فيه، وفي ممارسته من لدن عدد من الناس.

وأما الموقف مِن المداحين فيُفهم مِن أمْر النبي صلى الله عليه وسلم مَن رآهم أو لَقيهم أنْ يحثو في وجوههم التراب، فهو رفْض لهذا السلوك ولهذه الظاهرة، ولكنه ليس مجرد رفض، أو رفض معبر عنه بِقول، بل هو رفض معبر عنه بفعل.

ويظهر مِن القسم الخاص بالتطبيق في نص الباب أن المقداد أخذ بظاهر الحديث، وأنه حالما رأى مدّاحا جَعل يحثو في وجهه الْحَصْبَاءَ، وهذا أحد الفُهوم، وهو على كل حال مرتبط بظاهر النص.

وهناك فَهم آخر للنص ينظر إلى مقاصده، وهو أنه لما كان المدْح قد ارتبط لدى كثير من العرب بالرغبة في الحصول على عطاء، كان الجزاء بعكس ذلك، ومن ثم فُهم الأمر بحَثْو التراب في وجوه المداحين بأنه أمر بردهم وتخييبهم وعدم إعطائهم، ((كما يقال للطالب المردُودِ والخائب: لم يَحْصل في كفّه غير التراب))(5)، وكثيرا ما تستعمل العرب التراب للتعبير عن الفقر وشدة الحاجة(6).

وسواء أتعلق الأمر بظاهر الحديث أم بمقاصده فإن الثابت أن ظاهرة المدّاحين غيْر مَقبولة في المجتمع المسلم، ولما كان سلوكهم قد انتَقل مِن الحالة الفردية إلى الممارسة الجماعية فشَكَّل ظاهرة اتسمتْ بالجماعية والمبالغة فقد صارت الجماعة المسلمة مُطالبة بالتحرك لمواجهة تلك الظاهرة، ومن ثم كان الخطاب موجها للجماعة ليكون التكليف الجماعي مناسبا لنوع التَّفَلُّت وحجمه.

على أن تكليف الجماعة برفض المداحين وتخييبهم لا يلغي المبادرة الفردية في هذا الاتجاه، فقد تصرف المقداد بمفرده كما في نص الباب، وتصرفه الفردي يجد تبريره في كون الآخرين لا علم لهم بالحديث كما يُفهم من قول عثمان له: ((ما شأنك؟)).

بقيت إشارتان:

الأولى هي أن الحديث النبوي يتحدث عن الموقف من المداحين أثناء مدحهم، ولذلك ورد في رواية مسلم في حديث الباب ((أن رجلا جعل يمدح عثمان))(7)، وفي رواية عند أحمد ((أن سعيد بن العاص بعث وفدا من العراق إلى عثمان فجاؤوا يثنون عليه))(8)، مما يعني أن حثْوَ التراب في وجوههم كما هو ظاهر الحديث أو تخييبهم كما فهم من قصده مرتبط بزمن ممارسة المداحين للمدح، لا بملاحقتهم في الحياة اليومية كما قد يُفهم من ((إذا رأيتم)) أو ((إذا لقيتم)) الواردتين في بعض الروايات كما مر.

والأخرى هي أن في الحديث عن المدْح بقية، وسيأتي مزيد حديث عنه من زاوية أخرى بحول الله.

—–

1-  صحيح مسلم، 18/102، حديث رقم 3002، ك.الزهد، ب. النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.

2- مسند أحمد، 17/139، حديث رقم 23714، وقد علق عليه محققه حمزة أحمد الزين بقوله: ((إسناده صحيح)).

3- م.س.

4- سنن أبي داود، 4/254، حديث رقم 4804، كتاب الأدب، باب في كراهية المدح. وقد صححه الألباني.

5- النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/184، مادة ((ترب)).

6- لسان العرب، 3/230-231، مادة ((ترب)).

7- صحيح مسلم، 18/102، ح.ر 3002، ك.الزهد، ب. النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.

8- مسند أحمد، 17/139، حديث رقم 23714.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>