قضايا كبرى في مشروع الإصلاح التربوي


الإصلاح التربوي مفتاح التمايز الحضاري
التربية مفتاح الإصلاح إن لم تكن الإصلاح ذاته، وقضية الإصلاح التربوي قضية أمتنا الأولى، إذ لا إبداع ولا إقلاع، ولا تنمية ولا تزكية، إلا بالاهتداء فيها للتي هي أقوم. وأصل ذلك الانطلاق من كيان الذات ثوابت ومقومات، والاعتماد على إنجاز الذات وسائل وأدوات، والرنو إلى مساعي الذات مقاصد وغايات. وبمركب هذه العناصر الثلاثة يكون التمايز والتفاوت بين تجارب الحضارات، إذ صلاح التعليم، وهو الأساس، وقد اعتبر الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله الصلاح “من مميزات الأمم بعضها من بعض” وبحسب ما اشتملت عليه من صلاح يكون التفاضل(1).
ذلك أن قضية الصلاح، مثلما هي قضية الفساد في الأرض، إنما هي قضية كسب {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس}(الروم :41) وكسب الصلاح والإصلاح، من حيث كونه تكليفا شرعيا وموجبا عمرانيا، لابد فيه من بذل جهد على قدر الوسع والطاقة {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}(هود : 88) وهو جهد، وإن بدت معانيه مشتركة من حيث التصور والتجريد، إلا أنها متفاوتة متمايزة بين أهل التدين من حيث الأداء والتنزيل، على حسب صدق النية وقوة الإرادة، وجمالية الهيأة وبركة الأثر، ومن هنا كان الصلاح والإصلاح باعتبارهما كسبا وتدينا محل قبول أو رد من حيث الذوق، على نحو قوله عليه السلام “من جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه” إذ ليس كل تدين أو كسب ينال الرضا إلا تدين الصدق وكسب الرفق وجمال الحكمة، وبنحو هذا تتفاضل صور الكسب. والإصلاح التربوي عامة، والتعليمي منه خاصة، أشرف هذه الصور المنوط تحقيقها على سبيل الكفاية بمجموع الأمة قبل آحادها، وبخاصتها من أولي الكفاءة والقوة فيها دون دهمائها، ولن يرقى إلى مستوى الكسب التعبدي المطلوب إلا إذا صدر عن أهله، إذ حقيقة الإصلاح نقل الصلاح، ولابد من قيامه صفة ثابتة في الناقل، وإلا غص العمل بالفشل بقاعدة {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}(يونس :81).
الإصلاح التربوي وقضية الثوابت وثوابت الأمة قوام هويتها التي هي “حقيقة كيانها وما يتمثل فيه وجودها وتتجلى فيه خصوصياتها الحضارية بكل أبعادها” وهي باعتبار الأهم مركب من خمسة أبعاد بخمسة مقومات(2): البعد الإيماني بمقومه الوحي وهو صلب الهوية، والبعد العلمي بمقومه التراث الإسلامي وهو غشاء الصلب، والبعد اللساني بمقومه اللغة العربية وهو الواسطة بين الصلب والغشاء، والبعدان الزماني فالمكاني بمقوميهما التاريخ فالجغرافيا -أي جغرافية بلاد الإسلام- وهما الوعاء العمراني لتفاعل أجيال الإسلام متعاقبة مع الأبعاد الثلاثة الأولى بمقوماتها مجتمعة، وما ينجم عن ذلك من آثار على واقع الأمة وموقعها، ومسارها ومصيرها.
فالثوابت إذن دماء كيان الأمة النابضة بحياتها وتميزها، وركنها الشديد الذي تأوي إليه عند عزمها على إعادة تشكيل جنانها وتحصين وجدانها. ورأس الثوابت هدى الوحي الذي يتحدد من خلاله نسق الأمة القيمي المسدد لأمرها في التفكير والتعبير والتدبير، والمرشد لاجتهادها في الإنجاز والتعمير.
في إ صلاح التفكير
وإصلاح التفكير عمود الإصلاح التربوي، والتركيز على الجانب العقدي فيه، باعتباره تفكيرا مقدسا، ذروة سنامه، والغرض منه التشبع بقيم المنهج الإيماني في التفكير، ذلك أن “الله سبحانه الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، قد أودع فيه قوة الفكر المصيب، فإذا نشأ عقله على الاعتقاد المصيب، ارتاض عقله بقوانين الفكر المصيب، وإذا نشأ على ضد ذلك سخر عقله لطرائق الخطأ في التفكير وقبول التعاليم الضالة، ثم إحداث تعاليم أخرى إلى أن تتراكم عليه الضلالات والخرافات”(3). والمؤسف أن برامجنا التربوية لا تولي هذا الجانب من إصلاح التفكير- وهو الأساس- الاهتمام المناسب لحجمه وقيمته، ولا تأتسي فيه كثيرا بمنهاج الوحي الذي حاط صلاح العقيدة ودوام صلاحها، من جانب التفصيل بتمام إيضاح أمورها، وافتضاح الضالين عن سبيلها، وسد ذرائع خرمها من الشركيات والبدعيات، ثم من جانب التعليل باستدعاء العقول إلى الاستدلال على كبرى حقائقها، ورأسها وجوده سبحانه بصفاته التي دل عليها تنزيهه، عبر النظر في آياته في الأنفس والآفاق، مع ربط كل من جانبي البيان والبرهان بثمارهما التربوية في النفس والواقع(4).
ذلك أن حيز الموضوع ضمن برنامج المادة الإسلامية المغبون أصلا وقصدا، من الأولي إلى الجامعي، ضئيل جدا كما يشهد بذلك ابتداء غلافه الزمني، ناهيك عن أن مضمونه مزاحم أحيانا بما يناقضه من مفاهيم ضمن البرامج المقررة ذاتها، نحو مفهوم التحول والتكيف مع الوسط بالنسبة لأعضاء الحيوان، كما في ثنايا مقررات علوم الطبيعة، وهو مفهوم مستند إلى القوانين الأربعة لداروين في كتابه “أصل الأنواع”(5) المبني أساسا على قوله بالصدفة والاتفاق المعارض لحقيقة الخلق؛ وهو دون ريب أمر مخل بضرورة تكامل المفاهيم والمضامين بين مختلف المواد، فضلا عن أنه مؤثر سلبا في تناسق الشخصية الإيمانية المتوخى صناعتها.
في إصلاح التعبير
وأما إصلاح التعبير، فأقوى صلته بالثابت اللغوي، بل اللساني، ممثلا في مقوم العربية، إذ بغير تذوق أساليبها في التعبير، ومقاصدها في التصوير، عبر مساقاتها في القرآن وما صح من لفظه وجوامع كلمه عليه السلام، فضلا عن التمرس بكلام أساطين البلغاء العلمي والأدبي، قديما وحديثا، بغير هذا ونحوه، يضمحل في الناشئة البيان والتبين، ويتعذر العمران والتمدن، ذلك أن قضية الذوق بما هو “كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ”(6) لما تعط حقها ومستحقها في برامجنا التربوية، إذ ينحصر تعلم العربية -على علاته- غالبا في مجرد الإلمام بتقنياتها اللغوية، دون التملي من أسرارها ووظائفها اللسانية، وشتان بين اعتبار العربية قالبا لغويا رصينا، وبين اعتبارها لسانا فصيحا مبينا. يقول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ” اللغة إنما هي كل ما يلغو به الإنسان من الألفاظ للتواصل مع غيره، أما اللسان فهو الملكة البيانية التي يعبر بها المتكلم عما يجده من معان وأحاسيس، بما يجعل المتلقي يشعر بما شعر به الملقي، وذلك هو البيان بالمعنى القرآني… إن اللغة هي ذلك الرمز اللفظي المشترك، بينما اللسان هو ذلك المنتوج الشخصي في اللغة، فاللغة قوالب ميتة لا تحيى إلا عند تحولها إلى لسان، ثم إن اللغة هي ما في الكتب والمعاجم والقواعد، بينما اللسان هو ما في الحياة الإنسانية من التداول الكلامي”(7). ومن ثم فإن سقم المدنيات وعافيتها على – مستوى التعبير- يدوران مع أحوال تواصلها اللساني وأدائها البياني سلامة وعَيًّا، ومجلى ذلك أساسا التعبير عن المفاهيم، إذ هي بذور التمايز الثقافي والحضاري، باعتبارها أعرافا علمية واجتماعية خاصة، يتشكل من خلالها النسيج القيمي والعمراني المميز للمجتمعات في التصورات والتصرفات، وأي خلل يصيب لسان المفاهيم بطريق اللحن كما في التعبير عن الغلو بالتطرف، أو بطريق التزاحم الفج كما في ظاهرة التعدد اللغوي منذ مراحل التعليم المبكرة، لا بد من أن يورث غبشا في الاستيعاب والخطاب، وتضاربا في العقليات والنفسيات، ينهدم به لا محالة التنوع الاجتهادي المتكامل بالتضاد الإيديولوجي المتحامل. وإنما أتيت بلاد الإسلام، فيما سمي بمرحلة الاستقلال، من باب فوضى المفاهيم، إذ سعى الاحتلال بعد انزياحه العسكري عن الأوطان، إلى التمكن من اللسان والوجدان، بضرب التعريب بالتغريب، والإحياء بالحداثة، إلى أن نبتت في الأمة نابتة آبقة، خربت بما سطت عليه من مناصب في الفكر والسياسة، جهاز التواصل اللساني، وازدرت التراث الحضاري العمراني، لولا ما كان من جهود الغيورين من الأقوياء الأمناء، في البناء والنماء والنقد والنقض، وهو ما يشكل اليوم جزءا كبيرا من المادة الخام للاستئناف الحضاري المنشود.
في إصلاح التدبير
وأما التدبير بما هو “إجراء الأمور على النظر في العواقب بمعرفة الخير” كما في تعريفات الجرجاني، فإصلاحه أشد ارتباطا بالثابتين الزماني والمكاني، بمقوميهما التاريخ والجغرافيا، إذ هما -كما سبق- الوعاء لتجارب أجيال الإسلام الماضية والحاضرة، محسنة ومسيئة، مصيبة ومخطئة، والامتياح ابتداء من عناصر النجاح فيهما، لأجل بناء مناهجنا التربوية، وتطوير برامجنا التعليمية، يعد امتدادا طبيعيا لإبداع الذات ضمن صيرورتها التاريخية، وهو ما يجعل إصلاح حالنا التربوية، تنقية وتقوية وترقية، مضمون النتائج، إذ يجيب ذلك -وبقدر كاف- عن سؤال التأصيل في مشاريع التأهيل لمناهجنا التعليمية، فضلا عن أنه يعمق الوعي بذاتنا التربوية، لأنه يتعلق ماضيا بما يكشف عن واقعها التاريخي، وحاضرا بما يسهم في رشدها المنهاجي، ومستقبلا بما يترجم تميزها الحضاري.
على أنه حين عمت بلوى الاقتراض والتغريب مشاريع التدبير التربوي، بسعي من لدن الفاعل الرسمي و النخبوي الحداثي، طورا بمقتضى الانبهار، وحينا بدافع الاتجار، استحال الكشف عن المدخرات التربوية للذات سرابا، والتماس رشدها وريادتها تيها وارتيابا. وكان الأولى استكمال مسيرة الإصلاح التي قادها من قبل رواد الإصلاح، مذ دخلت الأمة نفق الانحلال والاحتلال، محاولين من جديد النهوض بمناراتها التربوية الكبرى وجوامعها العلمية العظمى، التي هي مرآة أحوالها وأوضاعها، ومشافي عللها وأسقامها.

ذ. عبد المجيد بلبصير
——-
1- ينظر “أليس الصبح بقريب” للطاهر بن عاشور ص16 وشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور: حياته وآثاره. للدكتور بلقاسم الغالي 183. الطبعة الأولى 1417/ 1996.
2- ينظر مشروع الميثاق والهوية الإسلامية للدكتور الشاهد البوشيخي ص36 ومابعدها ضمن أعمال اليوم الدراسي عن مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين. الطبعة الثالثة 2001.
3- أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور ص51.
4- ينظر المرجع السابق من 49 إلى 51.
5- ينظر مضمونه مختصرا في كتاب “قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن” ترجمة نديم الجسر.
6- تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 1/21.
7- مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية ص75.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>