الـمنعطف الخطير


جاءت محاولات تفسير الكهرباء والضوء منعطفاً خطيراً في تاريخ الحركة العلمية.. لقد استعصت طبيعة الكهرباء على الفهم رغم المحاولات المضنية التي قادت جميعها إلى فهم أن كل ما نعرفه عن الكهرباء هي الطريقة التي تؤثر بها في أدواتنا القياسية. والوصف المضبوط لسلوك الكهرباء على هذه الشاكلة يعطينا مواصفاتها الرياضية. وهذا هو كل ما نعرفه عنها. -الأوصاف -إذن- وليست الماهيات.. هذا كل ما هنالك.. بمعنى آخر، أن العلماء الكبار لا يزالون يقفون على الأعتاب ولما يفتحوا -بعد- الباب. لقد تمكنوا من الإلمام بجوانب من تأثيرات الكهرباء ومؤشرات عملها.. أما هي.. كنهها.. تركيبها.. ماهيتها.. فلا يدري أحد شيئاً. ومن عجب أنهم وهم يقفون على الباب، استخرجوا من الكهرباء هذه المنجزات التقنية العظيمة، فكيف لو عرفوا الماهية نفسها ماذا هم صانعون؟ حقاً إن في الكون لطاقات مذخورة هائلة، ليست الكهرباء والذرة سوى مؤشرين عليها فحسب، وأن على الإنسان أن يحث خطاه إلى مزيد من الكشف والتنقيب. وإن من يقرأ في القرآن الكريم الآيات الخاصة بتسخير الطاقات الطبيعية لسليمان وداود وذي القرنين (عليهم السلام) يعرف كيف أن هذا التسخير كان بمثابة خدمة كبيرة جداً، ويعرف أن كتاب الله سبحانه يفتح أعين الناس وعقولهم على ما ينطوي عليه الكون من طاقات وقدرات. لقد قبلت الكهرباء ضمن الأصول والأجسام التي لا تقبل الإرجاع إلى أصل سابق عليها، لأنها تستعصي على التحليل والإحالة.. لقد قبل جسم جديد في الفيزياء لا نعرف عنه شيئاً سوى بنيته الرياضية. وقد بدأت منذ ذلك الوقت تدخل في الفيزياء أجسام أخرى بنفس الشروط، ووجد أن هذه الأجسام تلعب دوراً يماثل بالضبط ذلك الدور الذي تلعبه الأجسام القديمة فيما يتعلق بتشكيل النظريات العلمية.
لقد أصبح الآن واضحاً أن معرفة طبيعة الأجسام التي نتحدث عنها لم تعد مطلباً لازماً حولها.. وأن إقتناعنا بأننا نعرف هذه الأجسام بصورة قريبة ما هو إلاّ مجرد وهم. لقد طأطأ العلم الرصين رأسه وسلّم بالواقع بعد أن تجاوز مرحلة مراهقته العنيفة.. سلّم بأن معرفة الأجسام الفيزيائية على حقيقتها ما هي إلاّ مجرد وهم، وأن ما تمت معرفته إلى الآن يتعلق ببناها الرياضية فحسب، وتلك هي حصيلة قرون من النشاط العلمي! ونحن نحاول أن نتفحص الجان والشياطين والروح البشرية، وأن نخضعها للحصر المختبري، حتى إذا أعيتنا الحيل، اجتهد ملاحدتنا الرأي فقالوا أنها ربما تكون غير موجودة.. وهنالك في أوربا نفسها، فلاسفة وأدباء، حاولوا أن يتكئوا على معطيات العلم كحقائق ومسلمات منزلة من السماء وأن يبنوا عليها فلسفاتهم ورؤاهم لكي يضفوا عليها -هي الأخرى- صفة “العلمية”. ويتغير العلم.. وتتغير الأسس.. فإذا بنظرياتهم تتهاوى الواحدة تلو الأخرى.. وهذا ما حدث بالنسبة لكثير منها في حقول الاجتماع والاقتصاد والنفس.. ويكفي أن نتذكر -على سبيل المثال- المادية التاريخية التي أقامت صرح نظريتها على معطيات العلم في القرن التاسع عشر، والتي سميت بالعلمية ثم ما لبثت أن تعرّضت، في القرن التالي، وبخاصة في العقود الأخيرة منه لكثير من الهزات العنيفة التي انتهت بها إلى السقوط، لأن الأساس الذي بنيت عليه أخذ يتأرجح ويتمايل وتتهاوى بعض جوانبه. وإذا كان العلماء أنفسهم، أبناء المختبر والتعامل التجريبي مع المواد والظواهر والأجسام، يعترفون بأن أحكامهم ليست نهائية، وأن ما تمكنوا من قطعه لم يتجاوز بدايات الطريق إلى الحقيقة.. فما لهؤلاء القوم من الأدباء والفلاسفة الذين لم يدخلوا مختبراً ولم يجرّبوا ظاهرة.. يدّعون بنهائية أحكامهم وثباتها وديمومتها ؟!
إننا نقرأ على سبيل المثال عبارات كهذه لمؤلفي كتاب “عرض موجز للمادية الديالكتيكية” : “تثبت المادية الديالكتيكية إمكانية معرفة جوهر الأشياء، معرفة قوانين تطور العالم” “من ذا الذي سيصّدق اللا أدريين الآن بأن هناك ما يسمونه “حدود” المعرفة، في حين اقتحم الإنسان الفضاء، ووسع بصورة كبيرة جداً حدود معارفه عن الكون ؟ إننا إذ نعرف العلم نعلم الحقيقة عنه ونمتلك المعارف الحقيقية”. وإنها حقاً لنرجسية “فلسفية” ما لها من مبرّر، وأنه قد آن الأوان لتعريتها. وإذا قال فيلسوف ما بصدد إحدى المسائل شيئاً وقال عالم ما شيئاً، فأحرى بنا أن نأخذ بمقولة العالم لأن أساليبه في البحث أكثر جدية وأتقن عملاً. واننا هنا لنتذكر ذلك التساؤل ذا المغزى العميق الذي يطرحه سوليفان في كتابه “حدود العلم” : “لماذا يترتب على الإنسان أن يفترض بأن الطبيعة يجب أن تكون شيئاً يستطيع مهندس القرن التاسع عشر أن يستحضره في ورشته؟”.

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>