جزاءُ إفرادِ اللَّهِ عَزَّ وجل بالمحبَّة والوَلاَء (3)


إن تحسين السريرة، وتحسين الصورة القلبية الداخلية ـ مع تحسين العمل طبعا  لا يُكسِبُ  العبد الصالح المخلص محبّةَ الله تعالى فقط، ومحبة الملإ العلوي والسفلي فقط بل يكسِبُه الولاية الربانيّة، أي يُصبح الله تعالى وليَّ العبد الصالح، يُدبِّر شؤونه كلها، ويحفظه الحفظ التام من بين يديه، ومن فوقه وتحته، ومن داخله وخارجه، من همزات الشياطين، ووساوس الشهوات : {اللَّهُ وَلِيُّ الذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّور والذين كَفَروا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة : 257)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُومِنِينَ أََعِزَّةٍ علَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْل اللَّهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَليمُ إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ والذين آمَنُوا الذِينَ يُقِيمُون الصَّلاةَ ويُوتُونَ الزَّكاَةَ وهُمْ رَاكِعُون ومَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والذين آمَنُوا فإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون}(المائدة : 56 -53).

فإذا وَصَلَ العبد إلى درجة تبادل المحبَّةِ مع ربِّه ـ إن صَحَّ هذا التعبير- كُفِيَ، مع العلم أن الفَضْلَ كُلَّهُ لله، فهو سبحانه وتعالى الذي أحبَّ عبده فالبداية مِنْهُ سبحانه.

ثم كان من ثَمَراتِ الرضا الرباني أن غرس في قلب عَبْده حُبَّ ربِّهِ.

وليس للعَبْد المُحِبِّ والمحْبُوب قبل ذلك إلا أن يَحْمَدَ الله عز وجل على هذه النعمة التي لا تُقَدَّرُ ولا تُثَمَّنُ {وَقَالُوا الحمْدُ للَّهِ الذِي هَدَانَا لِهَذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَاناَ اللَّهُ}(الأعراف : 42).

فإذا وَصَلَ العَبْدُ إلى درجة حَبِيبِ اللَّهِ المُحِبِّ لِهُداه المتمثل في المعالم الكبرى التي تضمنتها آيات المائدة، وهي :

أ ـ الذِلة على المومنين : وذلك بالعطف والتعاطف، والعَوْن والتعاوُن على جمع الكلمة وتوحيد الأمة وفق ما يرضاه الله عز وجل ورسوله، لا وَفْق ما ترضاه الأهواء والشهوات وإن تغلَّفَتْ بالشعارات.

ب ـ العزة على الكافرين : وذلك بالثبات على الحق في مواجهة الغزو الكفري ماديا ومعنويا.

ج- الجهاد في سبيل الله : وذلك بجهاد النفس ومجاهدة أهوائها حتى تثبت وتستقيم، وجهاد الجهل حتى تستضيء نفوس الأمة بعلم الله ونوره، وجهاد المعتدي حتى يرتدع، وجهاد الظالم حتى يعدل، وجهاد الدعوة حتى يتم البيان وتقام الحجة لله على المعاندين.

د ـ الخَشْية من الله عز وجل وحده : أي لا يُثنيه الخوف من البشر عن الدّعوة لله والجهر بالحق بالحكمة المطلوبة، واللين المطلوب، والجراءة المطلوبة أيضا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يتفشى الباطل ويصول صولةً يحجُبُ نورَ الحق عن الأعْيُن العمياء والأبصار الكليلة.

إذا وَصَلَ العَبْدُ إلى هذه الدرجة من المحبوبية استحق ولاية الله عز وجل العامة والخاصة التي قال فيها الله عز وجل في الحديث القدسي :

((مَنْ عَادَى لِي وَلِيّا فقَدْ آذَنتُهُ بالحَرْبِ، ومَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ ممَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فإِذا أَحْبَتْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ التي يَمْشِي بِهَا، وإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وإنْ استَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، ومَا تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أَنَا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ المُومِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))(البخاري عن أبي هريرة).

وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه : ((مَنْ عَادَى لِيَ وَلِيّا فَقَدْ  نَاصَبَني بالمُحَارَبَة، وما تردَّدْتُ عن شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدي عَنْ مَوْتِ المُومِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، ورُبّمَا سَأَلَنِي وَليِّي المُومِنُ الغنى فأَصْرِفُهُ مِنَ الغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، ولَوْ صَرَفْتُهُ إلَى الغِنَى لَكانَ شَرّاً له، وربَّمَا سَأَلَنِي وليِّي المُومِنُ الفقْرَ فَأَصْرِفُهُ إلَى الْغِنَى ولَوْ صَرَفْتُهُ إلَى الفَقْرِ لَكَانَ شَرّاً له. إنّ اللَّهَ قَالَ : وعِزَّتِي وجَلالِي وعُلُوِّي وبَهَائِي وارتِفَاعِ مَكَاني لا يُؤثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ علَى هَوَى نَفْسِهِ إلا أَثْبَتُّ أَجَلَهُ عِنْدَ بَصَرِهِ، وضَمَّنْتُ السماءَ والأَرْضَ رِزقَه، وكُنْتُ له مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ))(رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس).

وقال  صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه : “لَيْسَ كُلُّ مُصَلٍّ يُصَلِّي، إِنَّمَا أَتَقَبّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَواَضَعَ لِعَظَمَتِي، وكَفَّ شَهَواتِهِ عن مَحارِمِي، ولَمْ يُصِرَّ عَلَى مَعْصِيتِي، وآوى الْغَرِيبَ، كُلُّ ذَلِكَ لِي، وعِزَّتِي وجَلالِي إنَّ نُورَ وَجْهِهِ لَأَضْوَأُ عِنْدي مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، عَلَى أَنْ أَجْعَلَ الجَهَالَةَ لَهُ عِلْماً، والظُّلْمَةَ  نُوراً، يَدْعُونِي فأُلَبِّيه، ويَسْأَلُني فَأُعْطِيهِ، ويُقْسِمُ عَلَيَّ فأبَرَّهُ، أَكْلَؤُهُ بِقُوَّتِي، وأَسْتَحْفِظُهُ مَلاَئِكَتِي، مَثَلُهُ عِنْديكمَثَلِ الفِرْدَوْسِ لا يَتَسَنَّى ثَمَرُها، ولا يَتَغَيَّرُ حَالُهاَ”(1) (رواه الديلمي عن حارثة بن وهب).

ما أحْسَنَ وأحْلَى أن يتأمل المومنُ في كل وقْتٍ وحينٍ، ـ وخصوصا في الأزمات والمضائق ـ المشاهدَ الحيّةَ لثمراتِ الصدقِ في المحبة لله، والصدق في التوكل عليه وحْدَهُ، فالله تعالى يقول على شكل استفهام يؤكّدُ المُسْتَفْهَمَ عنه  ويُثْبِتُهُ ويقرِّره {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟(الزمر : 35).

ثم يقول لمحمد وأمته : {يا أَيُّهَا النَّبِيء حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُومِنِينَ}(الأنفال : 64).

هذه الكلمة “حسبي الله” التي لا توزَن بثقلها الأكوان قالها أبو ملتنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عندما أمَرَ المتألِّهون بِإلْقَائِهِ في النار، فتحولتْ النارـ بإذن الله تعالى ـ إلى بَرْدٍ سليم مُنعش(2) ثم قالها الرسول محمد  صلى الله عليه وسلم، ورددها معه أتباعُه في الولاءِ لله عز وجل والاعتماد عليه وحْدَهُ، والرضا بما ساقَهُ الله تعالى إليهم، وساقهم إليه، وذلك في غزوة حَمْراء الأسد فكانت الثمرة أن الله عز وجل كفاهم أمر عدوهم، حيث رَدَّهم مكبوتين مذمومين مدحورين {الذِينَ قَالَ لَهُمُ الناسُ إِنَّ النَّاسَ(3) قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إيمَاناً، وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَانْقَلَبُوا بِنعْمَةٍ منَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ واللَّهُ ذو فَضْلٍ عَظِيمٍ إنَّمَا ذَلٍكُمُ الشَّيِطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُومِنين}(آل عمران : 175 -172).

  المفضل فلواتي  رحمه الله تعالى

———-

1- لا يتسنى ثمرها : لا يعْتريه تغيُّرٌ، فلا يُصابُ بالتعفُّن، فهو كما قال الله تعالى {أُكْلُهَا دائِمٌ وَظِلُّهَا}(الرعد). أما الجهَالة فالمقصود بها عَدَمُ العلم، ومَن عرَف الله عز وجل فقد عَلِم العلم الأكبر وإن كان غير قارئ، فجَعْل الجَهَالةِ عِلْماً معناه إذا كان غير قارئ أو كاتب نَوّّر الله فكره بالعلم فأنطقه بالحكمة، وإذا كان ناقص العلم زاده الله علما على علم. البرور بالقسم : تحقيقه وتصديقه واقعا، أي أن الله تعالى إذا ألَحَّ عَبْدُه عليه في التضرع والدعاء حقق الله دعاءه.

هذه الأحاديث القدسية كلها مأخوذة من كتاب : “الاتْحَافَاتُ السَّنية بالأحاديث القُدسية” للمحدّث عبد الرؤوف المناوي

2- أنظر تفسير ابن كثير 1/529، فقد ذكر أن الحديث رواه البخاري.

3- المقصود بالناس الثانية هم كفار قريش الذين كانوا قَدْ عزموا بعد انتهاء غزوة أحُدٍ على الهجوم على المدينة لاستئصال المسلمين، حتى يفرغوا منهم نهائيا. ولكن الله كبتهم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>