حلاوة الدّعوة إلى الله تعالى والدفاع عنها وتصحيح مبَادئها(2) الفضيل بن عياض يقول لهارون الرشيد


 الفضيل بن عياض يقول لهارون الرشيد :

إنك أزهَدُ مني لزُهْدِك في الآخرة الباقية وزُهدي أنا في الدنيا الفانية

قال أحد مقرَّبي هارون وأحد وزرائه ابن الربيع : كنت بمنزلي ذات يوم وقد خلعت ثيابي وتهيأت للنوم، فإذا بقرع شديد على الباب، فقلت -في قلق- من هذا؟!

قال الطارق : أجِبْ أمِير المومنين، فخرجتُ مسرعاً أتعثَّر في خطوي، فإذا بالرشيد قائما على بابي، وفي وجهه تجَهُّم حزين، فقلت: يا أمير المومنين لو أرسلتَ إلي أتيتُك.

فقال : ويْحَك!! قدْ حاكَ في نفسي شيء أطار النوم من أجْفَاني، وأزْعَجَ وجداني، شيْءٌ لا يذهب به إلا عالِمٌ تقيٌّ من زهادك، فانظُرْ لي رجلا أسأله.

فاقترح عليه ابن الربيع الذهاب للفضيل بن عياض، فقال الرشيد : اذهَبْ بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي في غرْفته وهو يقرأ قول الله تعالى : {أمْ حَسِبَ الذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُم كالذِيَن آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَوَاءٌ محْيَاهُمْ وممَاتُهُمْ سَاءَ ما يحْكُمُون}(الجاثية : 21).

فقال الرشيد : إنّْ انتفعْنا بشيء، فبهذا.

فقرعت الباب.

فقال الفضيل : من هذا؟

قلت : أجِبْ أمِيرَ المومنين.

فقال مالي ولأمير المومنين؟!.

فقلت : سبحان الله!! أمَا عَلَيْك طاعتُه؟!

فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى الغرفة، فأطفأ السِّراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجُول عليه بأيدينا، فسَبَقَتْ كفُّ الرشيد كَفّي إليه.

فقال الفضيل : يَالَها من كَفٍّ!! ما ألْيَنَها إن نَجَتْ من عذاب الله تعالى غداَ؟!

قال ابن الربيع : فقلتُ في نفسي : ليكلِّمَنَّه اللّيلَةَ بكلامٍ نقيٍّ من قَلْبٍ تقِيٍّ.

فقال الرشيد : خُذْ فيما جئناك له يرحمك الله

فقال الفضيل بن عياض :

>وفِيمَ جئتَ -وقد حَمَّلتَ نفسك ذنوبَ الرعية التي سُمتَها هواناً-؟! وجميعُ من معك من بطانتك ووُلاّتِك تُضاف ذنوبُهم إليك يوم الحساب؟! فبِك بَغَوْا، وبك جَارُوا، وهُم مع هذا هُمْ أبغَضُ الناس، وأسرعُهم فراراً منك يوم الحساب؟! حتَّى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحْمِلوا عنْك سُقْطاً(1) من ذنب ما فعلوا، ولكان أشدُّهم حبا لك أشدَّهُم هرباً منك<.

ثم قال : إن عمر بن عبد العزيز لما ولِي الخلافة، دَعا سالمَ بن عبد الله، وحمد بن كعب، ورجاء بن حَيَوة، وهم ثلاثة من العلماء، فقال لهم : >إنّي قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي< (فلقد عدّ الخلافة بلاء، وعددتَها أنت وأصحابك نعمة).

فقال سالم : إن أردت النجاةَ غَداً من عذاب الله، فلْيَكُنْ كبيرُ المسلمين عندك أباً، وأوسطُهم عندك أخا، وأصغرُهم عندك ابناً، فوقِّرْ أباك، وأكْرِمْ أخاك، وتحنَّنْ على ولدك.

وقال رجاء : إن أردتَ النجاة غداً من عذاب الله فأحبَّ للمسلمين ما تحِبُّ لنفسك، واكْرَهْ لهم ما تكره لنفسك، ثمَّ مُتْ إنْ شِئْتَ.

وإني أقول لك : يا هارون، إني أخاف عليك أشد الخوف يوْماً تزل فيه الأقدام، فبكى هارون.

قال ابن الربيع : ارفق بأمير المومنين.

قال الفضيل : تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟!

ثم قال الفضيل : يا حَسَن الوجه!! أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخَلْقِ يوم القيامة؟! فإن استطعْتَ أن تقِيَ هذا الوجْهَ فافْعَلْ؟ وإياك أن تُصْبح أو تُمسِيَ وفي قلبك غِشٌّ لأحَدٍ من رعيتك، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : >منْ أصْبَحَ لهُمْ غَاشّاً لَمْ يُرِحْ رَائحَةَ الجنّة<(2)، فبكى الرشيد ثم قال : هل عليك دَيْنٌ؟!

قال الفضيل : نعَمْ دَيْنٌ لِرَبِي، لمْ يُحَاسِبْني عليه، فالويلُ لي إن سألني، والويْلُ لي إن ناقشني، والوَيْلُ لي إن لمْ أُلهَمْ حُجتّي.

قال الرشيد : إنّما أعْنِي ديْن العِباد.

قال الفضيل :إن رَبِّي لم يأْمُرْني بهذا، وقــد قــال عـز وجـــل:{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والانْسَ إلاّ ليَعْبُدُون مَا أُرِيدُ منْهُم مّن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أن يُطْعِمُون إنّ اللَّهَ هُو الرّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِين}(الذاريات : 56- 58).

فقال الرشيد : هذه ألْفُ دينار خُذْها وأنْفِقْها على عيالك، وتَقَوَّ بها على عبادتك.

قال الفضيل : سبحان الله!! أنَا أدُلُّكَ على طريق النجاة، وأنْتَ تَكافِئُني بمثْلِ هذَا؟!

قال ابن الربيع : فخرجنا من عنده، فقال لي الرشيد :

>إِذَا دَلَلْتَنِي على رَجُلٍ فدُلَّني على مِثْلِ هذَا، هَذَا سِيِّدُ المُسْلِمِين اليوم<(3).

ويُحكى أن الرشيد قال له يوما : >مَا أزْهَدَكَ<!!

فقال الفضيل : >أنت أزهد مني<.

قال الرشيد : وكيف ذلك؟

قال الفضيل : >لأنِّي أزْهَدُ في الدُّنْيَا، وأنْتَ تزْهَدُ في الآخِرة<(4).

الحلاوة الإيمانية تتمثل في :

أ- أن الفضيل رحمهالله لم يكن يَسْعى إلى أعتاب أربَاب الدنيا مالا وحكما وسلطانا، أعرض عنهم فرغِبوا فيه.

ب- استقباله للأمير استقبال العالم الربّاني الحريص على إنقاذ المتهافتين على الدنيا من السقوط في النار.

جـ- الحكمة العالية في تبليغ الدّعوة إلى الرشد في الحكم، والعمل على نفع المسلمين بما يعود بالفائدة على الحاكم.

د- الترفّع عن الطمع بأدب رفيع، وأسلوب بليغ يؤثر ولا يجْرح ولا يُحْرِج.

خـ- وضْع الزُّهد في محله بدون تكلف ولا تصنع.

نسأل الله عز وجل أن يجود على الأمة بعلماء ربّانيِّين يصحِّحون الأوضاع، ويسكِّنون الأوْجَاع، ويجمع الله عز وجل بهم شمل الأمة، ويكشف بهم الغمة.

أ.المفضل الفلواتي

—–

1- السقط : بكسر السين وضمه وفتحه : الولد التي تُسقِطه المرأة قبل التمام، وهو كل شيء ساقط لا قيمة له، وهنا بمعنى جزء صغير من السيآت والذنوب.

2- رواه البخاري في كتاب الإيمان.

3- سير أعلام النبلاء 378/8..

4- وفيات الأعيان 48/4 نقلا من كتاب : المبتكرات في الخطب والمحاضرات 185.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>