الاجتهاد الفقهي والمعرفي وقود التجديد الحضاري الإسلامي


بين الاجتهاد والتجديد

التجديد لغة من الجَدِّ بفتح الجيم، وأصل معناه القطع حسيا كان أو معنويا، مثال الأول: الثوب الجديد أي القريب العهد بقطع الحائك، ثم جعل لكل ما أحدث إنشاؤه، أي ما كان نقيض البالي الخَلِق.

ومثال الثاني الاجتهاد في الأمر، وهو الجد بكسر الميم، بقطع مراحله، واستنفاد أسبابه، بما يؤدي أحيانا إلى تحصيل مقام العظمة، وهي الجد بفتح الجيم، ففي حديث أنس : “كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا” أي عظم في أعيننا(1).

والتجديد في الاصطلاح الإسلامي لا ينفك عن روح المعنى اللغوي، إذ حقيقته تفعيل ثمرات الاجتهاد الفقهي والمعرفي في واقع الأمة، بما يؤدي إلى قطع صلتها ببالي المفاهيم وخلق المعتقدات، التي طال عليها أمد الانحطاط والتقليد، ويحقق لها عظمة الانفتاح على مستجدات العصر ونوازله، بحيث تستعيب إفرازاته، وتحل إشكالاته مستمسكة بأصل الوحي.

وعليه فالعلاقة بين الاجتهاد والتجديد إنما هي علاقة تأسيس وتأصيل، إذ متى غاب الاجتهاد في العلم والعمل، كان تجديد الحال والمآل في حكم العدم. وهي أيضا علاقة تجسيد وتشكيل، إذ متى عطل المجتهد اجتهاده، بحيث لم يبرز أثره النافع في الناس، لم يكن مجددا على الحقيقة. وبهذا الاعتبار ناط سبحانه أمر تجديد التدين في الأمة بمجتهديها العاملين، قال صلى الله عليه وسلم : ((“إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))(2) فبعث المجددين على رأس كل مائة عام، ناموس رباني عام، لإحياء أمة الإسلام بعد بلى الإيمان، بنفخ روح القرآن، حتى تنخرط من جديد في صناعة التاريخ من الأساس، وتؤدي واجب الشهود الحضاري على الناس.

وحيث إن رأس المائة مجمل، بحيث يحتمل أن يكون في الأصل بدءا من هجرته عليه السلام، وهو الذي عليه جمهور العلماء، أو من البعثة النبوية، أو من سنة وفاته صلى الله عليه وسلم؛ واستنادا إلى تاريخ بوادر بعثة التجديد في القرن الماضي، إذ عانت مخاض التشكيل عقب سقوط الخلافة العثمانية عام 1343ه/1924م، وما رافق ذلك من اجتياحات الاحتلال لبلاد الإسلام(3)؛ فقد يصدق الزعم أن بعثة التجديد المقبلة، وباستصحاب ما يعرف واقع المسلمين من هزات، بعد الذي شرب من شر الويلات وخير الصحوات، قد جاوزت مرحلة النطفة والعلقة والمضغة، وعسى أن تكسى عظامها من مختلف فئات شبيبتها علما وحلما، حتى تصير مع منتصف القرن الخامس عشر الهجري، وقد كتب الله أجلها ورزقها وسعادتها، ودارت عليها المائة دورتها، ذلك الخلق الآخر، كواكب من المجتهدين العاملين في الفقهيات وفي غير الفقهيات، يحيون الموات بروح القرآن، ويبرؤون أكمه الغرب وأعمى الشرق بنور القرآن، تذكيرا وتبصيرا، بإذن الله.

بين الاجتهاد الفقهي والاجتهاد المعرفي

إذ التمايز بينهما باعتبارهما وقود التجديد الحضاري الإسلامي، جار على مستوى التعريف والمجال والموجبات والأولويات.

إن الاجتهاد الفقهي بما هو بذل الجهد من قبل الفقهاء المجتهدين، مستعينين بأهل الخبرة غالبا في مختلف التخصصات، من أجل تحصيل الأحكام الفقهية من أدلتها الشرعية استنباطا وترجيحا وتنزيلا؛ يكاد ينحصر مجاله في دائرتين واسعتين: دائرة المختلف فيه من ظنيات الأدلة المتعلقة بأفعال المكلفين، وما يتطلب ذلك من تجديد الاستنباط والترجيح، ثم دائرة القطعيات بقصد تجديد تحقيق مناطاتها، أي تنزيلها بمحالها اللائقة بها من جديد؛ بحيث يقطع ذلك كله عن الآثار السلبية التي علقت به عصر التقليد، وخصوصا ما كان منها بفعل تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين كما ورد في الحديث.

ذلك أن اختلاف البيئات باتساع رقعة الإسلام، فضلا عن بروز نوازل جديدة بتغير أنماط العيش وتعقد علاقات المجتمع، ناهيك عن موجب تجديد تدين الأمة وتحصين قيمها دفعا لتيار العولمة الجارف؛ كل ذلك يفرض -فيما يفرض- ابتداء إصلاح مناهج تدريس العلوم المفيدة في صناعة المجتهد، وتفعيل مؤسسات الاجتهاد الجماعي مع إيلائها حق ممارسة السلطة الاجتماعية والتربوية في الأمة، ثم التقريب بين المذاهب الفقهية بتنمية المتفق عليه والإعذار في المختلف فيه.

وأما الاجتهاد المعرفي بما هو استفراغ الوسع من قبل العلماء المتخصصين في غير الفقهيات، تدبرا لآي الخالق وتفكرا في أحوال المخلوق، فإن مجاله يتسع اتساع ما في الكتابين المسطور والمنظور من حقائق الوجود، وهو مُنصب أساسا على استكشاف مظاهر التوافق بين الكونين المتلو والمجلو، إبرازا لدقائق الإعجاز الإلهي ودلائل النبوة المحمدية، إذ منزل القرآن هو خالق الأكوان جل وعلا.

ولعل تحدي التخلف المعرفي الجاثم منذ زمن على عقل الأمة وقلبها، من أكبر موجبات هذا الاجتهاد، مما يستدعي بذل قصارى الجهد لإحياء دورها الريادي في المجال العلمي، عسى أن تتخلص من إدمان الاستهلاك التقني وغير التقني، فتقتحم عقبة الإنتاج الإبداعي، وتوظف نتائج البحث العلمي المعاصر التوظيف الإيماني درءا لاختلالات التوازن البيئي.

بيد أن ذلك كله يقتضي -فيما يقتضي- ابتداء رفع العجز المادي عن مؤسسات البحث العلمي، ومواكبة برامج التعليم لما جد من نتائج العلم حقائق ونظريات، ناهيك عن ضرورة توفير الباءات لتنمية ذوي المواهب والكفاءات في مجالي البحث والإبداع.

وعسى أن  يصدق العزم من لدن أولي العزم من شبيبة الأمة، مثلما صدق من شيوخ علمائها ومجتهديها الأفذاذ، أحياء وأمواتا، فتستعيب موجبات الاجتهادين، وتحقق أولوياتهما، إذ في ذلك لدعامة كبيرة لتغيير العمران بتثوير القرآن، استلهاما لبصائره وبشائره، وتزكية بمكارمه وفضائله.

الاجتهاد والتجديد بين الضوابط والخصائص

إذ كل من الاجتهاد والتجديد في الإسلام منضبط بضوابط يفيض عن كل منها ما يناسبه من خصائص، ويمكن تلخيص أهم ذلك في الآتي:

1- الضابط التأصيلي:

ويراد به إرجاع صور الاجتهاد وعزائم التجديد إلى أصول الشرع أدلة وقواعد، حتى يندرج كل منها تحت أصله اللائق به. ويفيض عن هذا الضابط خاصية الارتكاز على الوحي باعتباره الهدى المنهاجي الخالص “إن هدى الله هو الهدى” ولذلك لا يقدم، ولا ينبغي أن يقدم عليه شيء من مصادر المعرفة الأخرى، إذ هو موافق للحقائق اليقينية، مطابق لها سواء بطريق التصديق، أو بطريق الهيمنة، ومن ثم فأي تعارض متوهم مع ما جاء به نص الوحي، ينبغي أن تجري عليه قاعدة فضيلة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله “اتهام النفس قبل اتهام النص”.

2- الضابط الإبداعي:

ويراد به الاجتهاد في كشف سبل المعرفة المجددة لمظاهر الاستخلاف في كنف صلاح العمران، ويفيض عنه خاصية الأخذ بالأسباب المودعة في السنن الكونية والاجتماعية، إذ هي سنن يقينية ثابتة “ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا”.

ولعل من نماذج هذا الأخذ الإبداعي رسم علماء المسلمين خرائطهم على أساس كروية الأرض، بعد تدبر موارد هذه الحقيقة في القرآن تنصيصا وتلويحا، وذلك بعد أن ساد الاعتقاد عند غيرهم أنها مسطحة؛ ناهيك عن مشروع العلامة ابن خلدون في فلسفة الاجتماع والحضارات، والشاطبي في المقاصد وغير ذلك من مشاريع مجددي علماء الإسلام المنبنية أساسا على تدبر القرآن والتفكر في أحوال العمران.

3- الضابط الإصلاحي:

ويراد به إثمار كل من الاجتهاد والتجديد في الإسلام ما فيه صلاح العقول وتزكية النفوس وتهذيب العوائد، ويفيض عنه خاصية الدعوة إلى الخير، إذ هي سبيل نشر الصلاح والفلاح بين الناس، على عكس التفكير الشيطاني نحو تفكير الوليد بن المغيرة في ما يصرف به الناس عن القرآن باتهامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر “إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر، ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يوثر إن هذا إلا قول البشر”.

ذ. عبد المجيد بلبصير

———-

1- ينظر مختار الصحاح : جدد.

2- أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة.

3- ينظر الفطرية للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ص 68- 70.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>