مفهوم التوازن والوسطية في الإسلام


التوازن رديف الاعتدال، وهو في الاصطلاح الإسلامي إجمالا، الوسطية في الأمور بإعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، ويرد تفصيلا بمعنيين عظيمين:

 الـمعنى الابتدائي

وهو مراعاته سبحانه للمعادلة ابتداء في ميزان الخلق والأمر، وهو عين حكمته سبحانه التي هي على الحقيقة “فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، بالقدر الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي” {وكل شيء عنده بمقدار}.

ففي الخلق أي في جانب التكوين، يخلق سبحانه ما يشاء ويختار، مجريا له على نظام من الاتزان والاعتدال، شأن النظام الجاري في حركة الكون، وفي قانون الخلفية المنبثق عن نظام الزوجية، حفظا لأنواع المخلوقات من الاضمحلال. قال تعالى : {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الارض ومن انفسهم ومما لايعلمون. وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمستجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}.

وقد أثبت محققو الإعجاز العلمي في القرآن، أن لفظ “كل” آخر الآيات، وارد في سياق التذييل، أي تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد، بمعنى أن فعل السبح غير منحصر فقط في الشمس والقمر، وإنما يجاوزهما إلى سائر أجرام الفضاء وكهارب الأجسام، إذ كل له مداره الثابت، وفق ميزان الاعتدال الإلهي، لا يحيد عنه قيد أنملة، كما نص عليه إجمالا قوله سبحانه {إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن امسكهما من احد من بعده} إذ حقيقة الزوال الانحراف عن المدارات الثابتة، ومنه لغة زوال الشمس إذا انحرفت عن كبد السماء. فالمولى سبحانه وهو الرؤوف الرحيم يمنع هذا الانحراف(1) لئلا يقع الفساد والهلاك في المخلوقات إلى حين {يومتبدل الأرض غير الأرض والسماوات} حيث يجري نظام آخر على ميزان حكمته سبحانه.

وفي الأمر أي في جانب التكليف نجد الأمر والنهي منوطا بما في المقدور {لا يكلف الله نفسا الا وسعها} أي ما يعادل مستطاعها وطاقتها، وذلك في كنف من التوازن بين التحريض على الامتثال بالترغيب، وبين التبغيض للانحلال بالترهيب {وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين}.

 الـمعنى الابتغائي

وهو تكليف الإنسان بمراعاة الوسط فيما يتحراه من الأحوال والأقوال والأفعال، أي “عمل ما يجب، على الوجه الذي يجب، بالقدر الذي يجب، في الوقت الذي يجب”(2) ابتغاء التخلق بالحكمة. {ومن يوت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا}.

ففي العقيدة، وهي الأساس، تكتسب حقائق الإيمان بالمنهاج الوسط بين كفتي العقل الصريح والنقل الصحيح. قال أبو حامد الغزالي في خطبة “الاقتصاد في الاعتقاد” “الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم” فالنقل لا يتجدد الإيمان بإعجازه بغير إعمال العقل، والعقل لا يتسدد الوثوق بإنجازه بغير تصديق الوحي، إذ يرسم له الحدود المعتبرة عند الإعمال، على نحو حكمة البيروني في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة” “يكفينا معرفة الموضع الذي يبلغه الشعاع، ولا نحتاج إلى ما لا يبلغه، وإن عظم في ذاته، فما لا يبلغه الشعاع لا يدركه الإحساس، وما لا يحس به فليس بمعلوم”(3) إذ بمثل هذا نتذوق حلاوة الاعتدال في نحو ما أخرج البيهقي في شعب الإيمان من قوله صلى الله عليه وسلم : ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) أي في الذات والصفات الإلهية على الحقيقة، وإن عظم هذا الأمر في ذاته، لأنه فوق طاقة التصور، خارج عن طوق الإحساس، بل خارم لميزان التركيب الحسي والنفسي كما يستفاد من قصة موسى عليه السلام في موقفه الأول بجانب جبل الطور جلال النور فوق الطور باق فهل بقي الكليم بطور سيناوفي العبادة، وهي أمارة صدق الاعتقاد، لا يتحقق التوسط إلا بترك العجز والتفريط  باتباع الأهواء على نحو قوله سبحانه {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} وكذا باجتناب الغلو والإفراط بما يؤدي إلى ملل القلب وتبغيض العبادة إلى النفس، وفي الحديث : ((إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ تظن أن لن يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا))(4) فالسير إلى الله على طريق الدين المتين، يقتضي عبادته سبحانه بقصد ولين، حتى يأتينا اليقين ونحن راضون طائعون.

وفي المعاملة، وهي دليل صدق العبادة، يكون إضمار حب الخير بالسوية للنفس وللمؤمنين دليلا على كمال الإيمان ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ناهيك عن أن التوازن بين الأفعال وبين ردود الأفعال مع غير المسلمين مبني على مراعاة الإحسانوالاعتدال في المنشط والمكره، سواء مع المسالم كما في قوله سبحانه “أن تبروهم وتقسطوا إليهم” أو مع المحارب في نحو قــوله تعالى : {فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.

وفي العوائد، وهي علامات جمالية التدين، ينبغي التعود على القصد والوسط فيما يتعلق بأمور المعاش نحو الإنفاق “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” وما يتعلق بهيآت الأشخاص في نحو المشي والكلام “واقصد في مشيك واغضض من صوتك” والأكل والشرب {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} واللباس والزينة بضوابطها الشرعية، فقد أخرج البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه

قال “آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة” أي مرتدية ما يمتهن به في البيت من خلق الثياب، تاركة التزين على جهة زهد زوجها في الاهتمام بها(5) “فقال لها ما شأنك؟ قالتأخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا” أي في شهوات النفس من الطيبات، إذ هجر الطعام والشراب بالصيام، والنوم والفراش بالقيام، وفي آخره “فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم

فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان”، فبين صلى الله عليه وسلم أن الحقوق لا تتعارض ولا تتنافى وإنما تتكامل وتعاضد.

والخلاصة أن الوسطية استمتاع بالطيبات في اعتدال، ونبذ لأشكال الابتذال والاختلال، وهو معنى الحكمة الذي فقهه سلمان، وأقره عليه النبي عليه السلام، لأنه موافق فطرة الإسلام، بخلاف ما كان عليه أبو الدرداء وأم الدرداء رضي الله عنهما من حال، على تفاوت واضح بينهما في المقدار والدافع، فإنه انحراف عن روح الدين، ومقصود الشارع من المكلفين، ولذلك ورد النهي عنه بما يلي:

- التحذير من التنطع والغلو في الدين لقوله عليه السلام : ((إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثا.

- النهي عن تجاوز الحدود والتعمق في الأمور بما يفوت المقصود لقوله سبحانه على لسان نبيه عليه السلام {وما أنا من المتكلفين}.

- النهي عن التشدد بتطلب المشقة في العبادات والقربات، درءا لمآل الفشل في إدامة الصبر على إقامة الدين لقوله عليه السلام “ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه”.

- الترغيب في القصد ولو بالقليل بما يديم حفظ مقاصد الدين، ويثمر عن العبادات الشعائرية حكمها التعاملية. قال عليه السلام : ((أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)) وفي الأثر “خير الأمور أوساطها”.

هذا ولعل كلا معنيي التوازن في الإسلام متضمن في قوله سبحانه {والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} إذ الميزان أولا بالمعنى الابتدائي، وثانيا فثالثا بالمعنى الابتغائي(5).

> ذ. عبد المجيد بالبصير

———–

1- ينظر موسوعة النابلسي على النيت “موضوعات علمية في الخطب”.

2- ينظر مفردات الراغب مادتا وزن ثم حق.

3- نقلا عن قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن. ترجمة نديم الجسر.

4- أخرجه البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في باب القصد في العبادة.

5- ينظر تاج العروس مادة بذل.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>