معالم المنهج التربوي في الإسلام من خلال المشاهدات الكونية


شاءت إرادة المولى عز وجل أن يكون انعتاقُ هذه الأمة بواسطة كتابين أحدهما مقروء والآخر منظور.

أما المقروء فهو القرآن الكريم الذي تتمثل فيه المناهج النظرية في الإسلام  بقواعدها وثوابتها القارة بلا منافس ولا مُنازع  ولامثيل.

في حين، يمثل هذا الكونُ جانبه أو كتابه المنظور والمشاهَد.

والناظر في القرآن الكريم يدرك تمام الإدراك أن الكتابين لا ينفصلان ولا يستغني أحدهما عن الآخر سواء تعلق الأمر برسم مناهج الحياة المادية أم تعلق الأمر برسم مناهج الحياة الروحية والدينية للمومن.

إن مناهج الحياة المادية للمومن تُعد في الإسلام من الثوابت الواجب حمايتها وتسطير مبادئ تحكُمها وتنظمها إلى أبعد حدود.

ولذلك قال عز وجل : {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله، واذكرواالله كثيرا لعلكم تفلحون}(الجمعة : 10).

>أولا- في قوله تعالى : {فإذا قضيت الصلاة} : يستفاد أن الصلاة هي أول الأعمال وأسماها لأنها صلة بين العبد وربه، صلة بين من في الأرض ومن في السماء، كما أنها تواصل معنوي عملي دائم بين الخالق والمخلوق، يدوم بدوام الحياة ومتطلباتها، كل يوم خمس مرات على الأقل، تتجدد بتجدد الحاجيات والضروريات والكماليات على سواء… فإذا ا نقطعت هذه الصلة بطلت بقية الأعمال لذلك في العبادة الوحيدة التي لاتقبل فيها النيابة في الإسلام على الإطلاق، وفي جميع الأحوال.

ولا تقوم العبادة -كالصلاة وغيرها- مقام السعي وفعل الأسباب، إذ بذلك تكون خالصة لوجه الله تعالى، وإلا لوقعت الصلاة لمجرد الرغبة في نزول الرزق والزيادة في العيش أو لمجرد الخوف من انقطاعهما ليس إلا، ولذلك عقب انقضاء الصلاة بقوله آمرا “فانتشروا…”.

-  دلالات تربوية للأمر بالسعي والانتشار في الأرض بعد قضاء الصلاة :

قد يدفع هذا إلى غياب التجمع للصلاة بالحجم الذي يقع في الجمعة طيلة أيام الأسبوع، فيغيب المومن عن إخوته أكثر من اللازم، ولذا جاء الأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة، ومعنى ذلك أن حضور الجمعة أوكد، وفي تجمع أكبر.

-والانتشار في الارض عزة ومناعة، إذ فيه كرامة وعفة، وحفظ ماء الوجه عن سؤال الآخرين، كما أن ذلك طريقٌ في درب بناء الشخصية الإنسانية المستقلة، الرافضة للخضوع لسلطة غير سلطان الله عز وجل

>ثانيا- والتعبير القرآني بالانتشار، يحمل دلالات تربوية عميقة منها :

1- إنه  لا أحد يُستثنى من واجب السعي في طلب الرزق الحلال حتى لا تكون هنالك فئة تعيش عالة على المنتشرين في الارض، فكما جمعهم واجب الصلاة والتحرر منها بقضائها، جمعهم أيضا واجب الانتشار.

2- إنه لا حدَّ للجهة التي تَوجه الأمرُ بالانتشار فيها، وإنما الانتشار إلى أية جهة شاءالمومن من جهات الأرض الفسيحة  ما لم تُنتهك حُرُماته بها ، وفي وُسعه إقامة شعائر دينه بها.

3-وإن كانت جهات الأرض في متناول العبد، فإنه مُؤطر فيما يبتغيه بأن يكون من رزق الله الحلال : {وابتغوا من فضل الله} وهو الطيب الحلال.

4ـ وفي الانتشار والتعبير به دون غيره ك : تفرقوا، اسعوا، وامشوا… إشارة إلى الكثرة الكثيرة ممن يحضرون  صلاة الجمعة من المومنين.

>ثالثا- والتعبير القرآني بقوله : {وابتغوا من فضل الله} يحمل دلالات تربوية أخرى أذكر منها :

1-إن الابتغاء فيه معنى الطلب، لكن بواسطة الأسباب التي أحلها الله تعالى، كالتجارة الحلال في شيء طيب حلال.

2-وفيه مشروعية العمل، إذ السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة… “كما قيل”.

3-إن ما يملكه الانسان من العيش، وما يتقلب فيه من النعم، ما هو إلا من فضل الله تعالى عليه، ومن فيض عطائه وفضله سبحانه، ويبقى سعي العبد مجرد سبب ظاهر ليس إلا.

>رابعاً – وفي الامر بذكر الله في الختام دلالات أخرى منها :

1-إنه لا فاصل يفصل في أعمال العبد بين دينه ودنياه، فكل ما هو دنيوي فهو في نفس الآن أخروي.

2-غير أن صلاح العبد في علاقته بالله تعالى أدعى إلى التوفيق في أعماله المختلفة والمتنوعة، ولذا حُصرت الأعمال بين أمرين : أمر بالصلاة، وأمر بالذكر.

وإلى هذا التوفيق إشارة  بقوله عز وجل : {لعلكم تفلحون}.

هكذا يلاحظ المومن من خلال هذه الإشارات أن سائر جوانب الحياة عند المومن لها صلة عضوية بحياته الدينية، وفي الصلاة المذكورة مثالا شافيا كافيا للاعتبار.

والانتشار في الارض سعي في التواصل مع جزئيات هذا الكون وكلياته، تواصل مع الأرض أولا وما حملت من نعم الله لهذا الانسان ما ظهر منها وما بطن ، الساكن منها والمتحرك، تواصل مع ما يحيط بالأرض من هوى ودفء وبرودة وبيئة… تواصل يحمل تجاوبا وتعايشا متلازمين، يفرضهما وحدة الأصل المعبود سرا وعلنا وهو الخالق عز وجل، الذي قدر فأحسن التقدير  قال سبحانه {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.

شاءت قدرته وقََدَره أن تكون الخلائق كلها في هذا الكون خادمة لهذا الانسان، فقال سبحانه {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

وقال سبحانه : {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(الجاثية : 12- 13).

َوقال سبحانه :{الَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}(لقمان : 20).

وقال عز وجل : {الَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(الحج : 65).

وقال سبحانه : {وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(النحل : 12).

وقال عز من قائل : “{وسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}.

وقال سبحانه : “{اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ}(ابراهيم : 32- 33).

تلك حقائق إلهية أكدها الكتاب العزيز، صريحة كلها في الكشف عن مكانة هذا الانسان وعظمته في التقدير الإلهي، وإلا ما كان أهلا لتسخير هذا الكون كله له بما فيه من أرض وما حوت، وسماء وما حوت ، وبر وبحر و غيرهما…

 >ذ. عبد الرحمن بوعلي  -العيون

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>