بوذا المستجير من الظلماء بالظلماء


ولفحتنا أول دفعة هواء بارد ونحن نحط أقدامنا في سلم الطائرة ونستقبل الوجوه والملامح السيريلانكية الأولى لعمال المطار في صبيحة ممطرة،  غائمة الأفق.

كانت السحنات داكنة اللون،  شبيهة إلى حد بعيد بالملامح الهندية.. تشع منها سكينة وهدوء يكاد يماثل سكينة وهدوء الأصنام الراسية على جنبات  شوارع سيريلانكا..

وتلقفتنا قاعات المطار الشاسعة حيث الموظفات السريلانكيات  يذرعنها بلباس “الساري العاري  البطن والظهر”.. أو يجلسن خلف مكاتبهن  لترتيب عمليات دخول وخروج المسافرين.

وبعد جملة من الإجراءات الإدارية المملة وجدنا أنفسنا بالشارع العام وسط حشود السريلانكيين الميممين صوب أعمالهم  ومشاغلهم الصباحية..

العناية الربانية الكريمة شاءت لنا أن نجد الإخوة السريلانكيين في انتظارنا بسيارة شبيهة بأوتوبيس صغير من النوع الممتاز، حيث شحنوا أمتعتنا وأفسحوا للنساء مكانا مريحا ومنزويا بالسيارة  خلف الرجال، ثم انطلقوا بنا في شوارع العاصمة كولومبو إلى  مركز الاستقبال المعد للعاملين للدعوة..

“مرحبا بكم في سريلانكا” هكذا كما في كل بلدان العالم استقبلتنا كلمة الترحيب الاعتيادية.

مرحبا بكم في جزيرة سيلان أو سرنديب.. وهي أسماء متعددة لجزيرة واحدة، مبهرة الجمال تقع شمال المحيط الهندي إلى الجنوب من شبه القارة الهندية..مناخها الاستوائي يجعل موسم الأمطار فيها بلا انتهاء  كما تقول كتب الجغرافية.. حيث ينزل المطر معظم أشهر السنة، الشيء الذي جعل هذه الجزيرة الساحرة ترفل في حلل من الخضرة الدافقة بنضارة مذهلة، تصيب الرائي المتأمل في ملكوت الخالق بخرس وانشداه لا مثيل له وهو يمسح بعينيه زرابي مبثوثة بلا حدود من الأشجار العملاقة وأنواع النباتات العجيبة  ومزارع المانكا والأناناس والموز المترامية الأطراف، وصدق أولئك الرحالة الذين لقبوا سريلانكا بجنة الأرض.

لكن.. مهلا.. مالي وهذا العرض الجغرافي البارد كأني دليل سياحي ثرثار جبل على الإطناب والتنميق والأمر أعجل من سرد ميت لقشور دنيا هي مجرد متاع لا يساوي عند الله جناح بعوضة..

الأمر أعجل -قارئي- وأشد إيلاما مما يمكنك تصوره.. ففي سريلانكا يستشعر المسلم الزائر إلى أي حد هو غريب وأعزل دين الإسلام.. الإحصاءات الباردة تقول إن عدد البوذيين في سريلانكا 70% والهندوس 10% والمسيحيين 10% أما المسلمون فيبلغ تعدادهم مايناهز 10%.

عدد جد قليل مات منه الآلاف جراء حروب أهلية طاحنة لم يكن للمسلمين فيها ناقة ولا جمل..والبلد علماني مائة في المائة ولا يتنازل البتة عن قيمه العلمانية المندغمة بشكل سوريالي مع المعتقد البوذي الديني…!!

وهو الانسجام الذي أصابني بالصعقة الكهربائية القاتلة ونحن في طريقنا إلى مركز الدعوة بكولومبو فقد انتصبت على ناصية الطريق تماثيل بلا حصر عملاقة الهيكل لبوذا، وهو في وضعية تأمل وفي كامل زينته والطامة الكبرى أن السريلانكيين هكذا على حين غرة ينتزعون أحذيتهم في الشارع العام أمام التماثيل، وينخرطون في استغراق صوفي  وهم يؤدون طقوس صلاة لا يفهمها سواهم، وفي أقل من دقيقة تنتهي مراسيم عبادة بوذا… عبادة الحجر والعياذ بالله.

بوذا هذه الكلمة التي تعني المستنير، وقد كان  بوذا حقا مستنيرا بالمفهوم الدنيوي الصرف، إذ تقول كتب سيرته أنه كان ابن أمير هندي يرفل في الجاه والعزة لكنه كره حياة الترف وحمل نفسه على النزول إلى حيث الفقراء والتعساء لإعانتهم وتنفيس كربهم بعد أن أمضى سنوات معتبرة  في خلوة منعزلة لاستجلاء خفايا وكنوز الروح ُ، وإذ آنس من نفسه تجردا كافيا من زخرف الدنيا وزينتها خرج وتلامذته بتعاليم ما عرف  بالبوذية  المتمثلة في رفض الظلم والإفقار والزنا وأخذ أموال الناس بالباطلوحث أتباعه على الدعوة إلى التخلق بالقيم العليا ورفض المظالم كيفما كان شكلها والرضوخ فقط للحجر، حجر بوذا لاستلهام جلده وصبره على الجوع وضنك العيش من أجل حياة أكثر مساواة وعدل بين طبقات المجتمع..

لكن هل يستحق هذا الحجر الذي لا يضر ولا ينفع كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعبد بكل هذا التبتل والخشوع وهو تمثال ميت أخرس لا حول له ولا قوة، وإن يشبعه غلام صغير ضربا لا يستطيع ردا ولا تعقيبا؟؟..

ولأن الشيء بالشيء يذكر فرحم الله أم سليم بنت ملحان التي جاءها أبو طلحة زيد بن سهل  خاطبا وهو مشرك فاشترطت لتتزوجه، أن يعود عن عبادته البلهاء لشجرة صماء إلى الدين الحق، وقالت له في سياق ذلك مستهزئة :

- أرأيت حجرا تعبده لا يضرك ولا ينفعك أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك هل يضرك؟ هل ينفعك؟

فسكت أبو طلحة فواصلت هجومها اللبيب

- أما تستحيي تسجد لخشبة تنبت من الأرض يجرها حبشي من بني فلان؟ إنه لا ينبغي لي أن أتزوج مشركا أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم التي تعبدون ينحتها عبد آل فلان النجار، وأنكم لو أشعلتم فيها نارا لاحترقت؟

فبهت الذي كفر،  وعاد  زيد بن سهل  عن غيه وأسلم فقبلته الرميصاء زوجا..ولم تكن أم سليم إلا نموذجا واحدا مبهرا من بين آلاف النماذج العملاقة من الصحابة والصحابيات الذين تخرجوا من المدرسة المحمدية بدرجة قادة راشدين  يعرفون حقا الفرق بين من يخلق وهو على كل شيء قدير،  ومن لا يخلق وهو كلٌّ على مولاه.

لقد تشرب المسلمون من سلف الأمة  كلمة التوحيد لا إله إلا الله لمدة ثلاثة عشر سنة عرفوا فيها ألا معبود بحق إلا الله وأنه الخالق   وأن ليس كمثله شيء، فعبدوه سبحانه واتبعوا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم دون تأليه كما في المفهوم البوذي القاصر متمثلين قوله تعالى ٍ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن ماتأو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}(آل عمران 144).

فكسروا أصنام أنفسهم المتذبذبة قبل أصنام الحجر،  فقادتهم المعرفة إلى العزة والتمكين، والسير في الأرض لتبليغ هذه العزة، ودليل حركتهم التبليغية المباركة  السائرة في الأرض، أن الإسلام دخل إلى سريلانكا في أواخر القرن الهجري الأول.. وإذ نكص المسلمون عن أمر الدعوة والتبليغ ولو لآية واحدة..وتمكن من المسلمين داء “السلحفاتية” المؤثرة لوضع رأسها داخل قوقعتها إيثارا للراحة والطمأنينة والسلامة، ضاع الدين بين دجالين ومتطفلين وتائهين زين لهم الشيطان شطحاتهم فظنوا أنهم يحسنون صنعا كما السيد  “المستنير”  بوذا وغيره كثير.. فهو لا يعدو أن يكون كالمستجير بالظلماء من الظلماء.

وللحديث بقية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>