مسجد موسكو تم ترميمه على يد حرفيين مغاربة وحظي بهبة ملكية


ارتبط اطلاع روسيا على الإسلام وبداية انتشاره فيها بتطور العلاقات التجارية مع العالم العربي والإسلامي، وهي علاقات تعود جذورها إلى العهود المبكرة في العصر الوسيط وكذلك إلى الطريق التجاري الشهير< من الفرياغ إلى اليونان< الذي يمر عبر أراضي الدولة الروسية القديمة ويربط بين البلاد الاسكندنافية وبيزنطة.

الفولغا أول كيان نشأ في أراضي روسيا الحالية، وله تقاليد ثقافية إسلامية مسجلة رسميا وقد حصل ذلك عام 921م أي قبل اعتناق روسيا القديمة وعاصمتها كييف الديانةالنصرانية،وقبل تبني الأمير فلاديمير النموذج البيزنطي بمائة سنة. ويعتقد المؤرخ شهاب الدين مرجاني أن البلغار اعتنقوا الإسلام قبل ذلك التاريخ،

أي قبل وصول أحمد بن فضلان إلى هذه المنطقة. وتشير المصادر الإسلامية إلى أن بلغار الفولغا وهم جيران الخزر كانوا أكثر اتصالا بالمدنية الإسلامية، ففي سنة 921م وفد على الخليفة المقتدر سفراء من البلغار، الذين اهتدوا إلى الإسلام وطلبوا أن يرسل إليهم بعض العسكريين المتخصصين في بناء القلاع والحصون،وكذلك بعض العلماء لتدريس الإسلام.وكان بين الهيئة التي أوفدها الخليفة ابن فضلان الذي وصف الرحلة من بغداد إلى بلاد البلغار ثم العودة إلى بغداد مارا ببلاد الخزر.

وكان ظهور التبشير الفردي الإسلامي -خارج العالم الإسلامي- مرتبطا بالتصوف الإسلامي، فيحكى دائما في مناقب الصوفية أنهم استطاعوا إدخال كثير من الناس في الإسلام، وقد ظلوا حتى وقت قريب أكثر توفيقا من العلماء الذين درسوا في المدارس.

وتشير أولى الدلائل على وجود موسكوإلى أنها كانت منذ التأسيس مدينة تجمع بين تقليدين روحيين وثقافيين قوميا ودينيا، ويعودان إلى الإسلام >ممثلا في بولغاريا حوض الفولغا الذي اعتنقوه< وإلى النصرانية البيزنطية التي باتت دينا للدولة الروسية ونمطا لحياة معظم سكانها، بسبب الخيار التاريخي الذي أقدم عليه الأمير فلاديمير عندما فضلها على الإسلام.(تحريم الإسلام للخمر ولحم الخنزير).

يتوسع مسلموروسيا على مساحة كبيرة من الأراضي الروسية تشمل 14جمهورية ومنطقة إدارية، وتعتبر أماكن تجمعاتهم مناطق شديدة الحساسية لجغرافية الدولة الفيدرالية، وهي على الشكل التالي: ست جمهوريات وإقليم إداري وسط روسيا وعلى حدودها كازاخستان،سبع جمهوريات في شمال القوقاز على الحدود مع جورجيا وازربجان وأرمينيا وعلى مقربة من حدود تركيا وإيران.

وتعد باشكيريا وعاصمتها أوفا من أهم الجمهوريات الإسلامية ومن أهم مراكز المسلمين في روسيا،كما تعد أهم مراكز الدعوة الإسلامية في القسم الأوروبي من روسيا.

تحتل جمهورية تتارستان أهمية كبيرة عند مسلمي روسيا وتمتاز مدنها بالطابع الإسلامي خصوصا العاصمة قازان وهوما جعلها وجهة للسياح المسلمين والأوروبيين.

يضاف إلى بشكيريا وتتارستان الوجود الإسلامي الواضح والمؤثر في الشيشان وداغستان.

أكثر المسلمين في روسيا أحناف وبعضهم شافعيون ولا وجود للمالكيين، أما بالنسبة للمذهب الشيعي فيوجد في الحدود مع ايران.

ظهرت أولى الجاليات الإسلامية في سيبيريا في النصف الثاني من القرن الهجري الأول عندما هاجر إليها عدد من المسلمين من مدن >بخارى< و>سمرقند< و>قازان< بآسيا الوسطى، وعملوا على نشر الدعوة الإسلامية بين قبائل >الإسكيمو<، لذا فإن الإسلام هوأول دين سماوي عرف في هذه المنطقة التي تعتبر أكبر صحراء جليدية في العالم، ولم تقف الظروف المناخية الصعبة حجر عثرة في سبيل نشر الإسلام والتعريف بهداياته وقيمه وتعاليمه السمحة في بلاد الإسكيمو.

وقد حققت الجالية الإسلامية في سيبيريا العديد من المكاسب الإيجابية لصالح الدعوة الإسلامية،حتى تأسست هناك دولة إسلامية خالصة،فقصدها العلماء من المدن ذات الشهرة في تاريخ الإسلام بمنطقة آسيا الوسطى.

وفي القرن التاسع الهجري بدأت تنشأ أول المدارس التي تدرس المواد الإسلامية كالتفسير والحديث والفقه حتى أصبحت بلاد ما وراء النهر حصنا من حصون الإسلام كمدينة مكة المكرمة والمدينة المنورة والكوفة،وانتشر المذهب الحنفي في هذه المناطق.

وابتداء من القرن الثامن والتاسع الميلادي أصبحت طشقند مركزا كبيرا لتقدم الثقافة الإسلامية، ومن أبرز علماء المذهب الحنفي برهان الدين مرغيانني مؤلف كتاب >الهداية< ومحمد بن علي عقال الشاشي >أصول الفقه< الذي يعد أساسا للمذهب الشافعي.

كما ساهمت بلاد ما وراء النهر في تقدم الشريعة الإسلامية وبزوغ أعظم أمجاد الإسلام بتأليفهم أهم منابع الإسلام بعد القرآن الكريم كأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب >صحيح البخاري< وسنن الترمذي، والنسائي كما أنشأ أبومنصور الماتريدي إحدى أهم المدرستين في العقيدة الإسلامية السنية بمدينة سمرقند >مدرسة الماتريدي<.

ثم كذلك شيوخ المفسرين كابي البركات عبد الله بن احمد النفسي، ومنهم أئمة التأليف في البلاغة وإعجاز القرآن كالشيخ الجرجاني، وسعد الدين وحكيم الفكر الفلسفي في الإسلام الحكيم أبونصر الفارابي وابن سينا والزمخشري والرازي والبيروني.

ونحن في المغرب نعتمد الكثير من هذه الكتب ويجهل البعض البلاد التي أنجبت هؤلاء العظام.

تتمركز في بلاد ما وراء النهر مجموعة من المخطوطات الشرقية من بين هذه المخطوطات المصحف  العثماني، والمصحف  المكتوب بالخط الكوفي.

ومن أهم المخطوطات مصحف الخليفة عثمان رضي الله عنه وهي أقدم نسخة مكتوبة للقرآن تتكون من 353 رقعة من جلد الغزال وقد قام الأمير تيمور بحفظها في أوزبكستان بعد غزوه العراق.

لقد كانت بلاد المسلمين في قمة الحضارة والوئام حتى توفي الأمير بركة خان فبدأ الصراع على السلطة بين الأمراء فتفككت دولة المسلمين إلى عدة إمارات مما سهل السيطرة عليهم، فتجمع الروس حول أمير واحد هو أمير موسكو وبدؤوا بعد أن قوي أمرهم بمطاردة المسلمين، وأثار همتهم فتح القسطنطينية التي كانت تعتبر >روما الثانية< بالنسبة لهم،ثم كذلك قيام الحروب الصليبية في أوروبا،ففي عهد إيفان الثالث بدأ التمرد على المسلمين.أما في عهد إيفان الرابع الملقب >بالرهيب< فقد اتبع سياسة توسعية في حكمه،كانت تهدف إلى الربط بين بحر البلطيق وبحر قزوين. وبذلك خاض إيفان الرابع وهوأول قيصر لروسيا حروبا توسعت بنتيجتها أراضي روسيا لتصبح إمبراطورية مترامية الأطراف.قام إيفان الرهيب عام 1552م بمحاصرة >قازان< وارتكب فيها مجازر جماعية.وفي 1554م تمكن من الاستيلاء على أسترا خان، وأصبح بذلك نهر الفولغا قناة روسية بحتة تسهل الوصول إلى بحر البلطيق.ومهدت الطريق للتوسع الروسي إلى ما خلف الأورال وهي جبال تحد من أوروبا الشرقية وآسيا ثم تم الاستيلاء على سيبيريا عام 1555م. وقد أتم هذا التوسع كذلك كل من الإمبراطور بطرس الكبيروكذلك إيكاتيرينا الثانية،فأصبحت روسيا من أكبر بلدان العالم. إلا أن هاتين الشخصيتين بحكمتهما ودهائهما استطاعا أن يكتسبا ود المسلمين وصداقتهم في الداخل والخارج.

قام كل من<بطرس الكبير< و>إيكاترينا الثانية< بمحاولات مشجعة في تطوير حركة الإستشراق .فقد دفع اهتمام >بطرس الكبير< المتزايد بالشرق وحضارته إلى تأسيس مراكز علمية مختصة مكنت من طبع وترجمة الآثار العربية، وكان من نتائج ذلك ظهور أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم على يد>بطرس بوسنيكوف< ومن أهم ما يميز >بطرس الكبير< هوحرصه الشديد على جمع المخطوطات والمسكوكات العربية فأسس لهذا الغرض >متحف النوادر< عام 1721م.

وسارت >إيكاترينا الثانية< على نهج > بطرس الكبير< وتميز عهدها بإدخال أول مطبعة بحروف عربية فكان أول ظهير إمبراطوري باللغة العربية،تطلب فيه نشر نسخ عديدة من القرآن ومؤلفات إسلامية أخرى التي وزعت على المسلمين كهدية من الإمبراطورة.

ومع بداية العشرينيات عرفت الحركة الإستعرابية الروسية، ظهور وجوه جديدة نالت شهرة عالمية،كبارتولد وكراتشكوفسكي الذي قام بترجمة معاني القرآن التي تعد من أحسن الترجمات.

بعد إقامة الحكم السوفيتي، وفي أعقاب انتقال العاصمة الروسية من بطرسبرغ إلى موسكو،باتت الأخيرة مركزا سياسيا وإداريا.

وجاء في نداء مجلس مفوضي الشعب >الحكومة< الذي وقعه فلاديمير لينين في 3 ديسمبر 1917م تحت عنوان >إلى جميع المسلمين في روسيا والشرق< إن >معتقداتكم وعاداتكم ومؤسساتكم القومية والثقافية حرة ومصانة من الآن فصاعدا .فابنوا حياتكم القومية بحرية ودون عائق.فلكم كل الحق في ذلك.

لكن في عام 1922م بدأت عملية قمع الحياة الدينية الإسلامية فاتخذت التدابير الموجهة ضد رجال الدين بالكنيسة الأرثوذكسية، لكن آلة القمع طالت الإسلام أيضا، ومن ذلك تصفية نظام التعليم الإسلامي العالي، وتقييد نشاط الكتاتيب والمدارس >الإسلامية الابتدائية والثانوية<. واقترنت محاولة السلطة السوفيتية للسيطرة التامة على الأمة الإسلامية، وعلى نشاط أئمة المساجد،بطرح أفكار >ثورية< في أروقة الكرملين،مثل نقل دار الفتوى من مدينة أوفا إلى عاصمة الدولة. ونقل الإدارة الدينية المركزية لمسلمي وسط روسيا وسيبيريا إلى موسكوأوقازان. وفي سنة 1927م أغلقت >المجلة الإسلامية< التي كانت المطبوعة الدينية الوحيدة التي تصدرها الإدارة المركزية لمسلمي روسيا منذ سنة 1922م .كما تقرر منع الحجاج الروس من السفر إلى بلاد الحرمين وصودرت المساجد من أصحابها الشرعيين،وشغلتها مختلف المؤسسات والتعاونيات السوفييتية وصودرت نسخ القرآن الكريم.

وبعد الحرب العالمية الثانية استطاع المسلمون أن يكتسبوا ود ستالين لمشاركتهم في هذه الحرب دفاعا عن وطنهم ولشجاعتهم الكبيرة في القضاء على الفاشيين،فطلبوا من ستالين أن يبني لهم مسجدا عوض تقليدهم بالميداليات التي لا تعطى إلا للشجعان، وهكذا أعطى ستالين أوامره الغير القابلة للنقاش ببناء مسجد موسكو فبنى المسجد.

في ظل القوانين الدينية الجديدة، وعلى وجه التحديد روسيا الاتحادية حول >حرية الأديان< وحرية المعتقد والتنظيمات الدينية،وقد صدرا في أكتوبر 1990م، اكتسبت الحياة الدينية حرية لم تشهد لها مثيلا في تاريخ البلاد.وحالما توفرت أولى الإمكانيات طفت على السطح موجة الاهتمام بالإسلام التي كانت موجودة ضمنا لكن دون أن تظهر. ودهش لانفجار تلك الموجة خبراء مجلس شؤون الأديان،الذي تضاءل نشاطه وكذلك الجيل الأقدم من المسلمين الذين تعودوا على ممارسة عباداتهم بالسر وليس بالعلن.

وقد بلغت الصحوة الإسلامية ذروتها وغص مسجد موسكوالجامع، الذي حظي بهبة مولوية من أمير المِؤمنين محمد السادس ورمم على يد حرفيين مغاربة، بالراغبين في دخول مدرسته الدينية، وعلى جناح السرعة نظمت إدارة المدرسةصفوفا جديدة لمختلف الأعمار.واستقدم للتدريس مستعربون مؤهلون وقد استجابوا لدعوة الشيخ راوي عين الدين مفتي روسيا.

رشيدة بنرحمون

باحثة في اللغة الروسية وتاريخ الأديان في أروبا الشرقية

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>