ألم قلم – رياضة داحس والغبراء


حينما كنت اقرأ عن حرب البسوس التي دارت بين قبيلتي عبس وذبيان العربيتين في العصر الجاهلي بسبب سباق بين فرسين : داحس والغبراء لم أكن أصدق ما حدث فعلا، حيث إنه من المعلوم أن نتيجة السباق لم تُرض أحد الطرفين بعدما تبين له أن الطرف الآخر دبَّر مكيدة ليكون هو السابق، فبدأت الحرب بين الطرفين كلامية لتتحول إلى حرب فعلية جُندت فيها كل طاقات الطرفين من عدد وعدة وإعلام مما كان متوفرا آنذاك، إلى أن عمرت أربعين سنة بعد أن أكلت الأخضر واليابس، ولم يتم الإصلاح بين الطرفين إلا بعد جهد جهيد من قبل عدد من الحكماء خلد ذكرهم بعض الشعراء وفي مقدمتهم زهير بن أبي سلمى.

قلت لم أكن أصدق ما حدث فعلا، لأني لم أكن أتوقع أن يكون سباق بين فرسين، أو لنقل مباراة  بين فريقين أن تؤدي إلى ما أدت إليه مما سبق ذكره.

لكن ما حدث مؤخرا بين دولتين عربيتين بسبب مباراة في كرة القدم جعلني أستحضر بشكل تلقائي ما حدث بين القبيلتين العربيتين، ودفعني إلى أن أقول إن كل قبيلة كانت على حق  حينما أعلنت الحرب على القبيلة الأخرى، ذلك أن شرف الحصول على “كأس القبائل العربية الجاهلية” في مباراة سباق الخيول ليس بالأمر السهل، فهو تخليد  لذكر القبيلة ودخول للتاريخ من بابه الأوسع، وهذا مما لا ينبغي احتقاره أو الاستهانة به.

وإذا كانت حرب القبيلتين الجاهليتين بسبب “كأس قبلية” متواضعة، فكيف بكأس العالم  في القرن الواحد والعشرين، لا بد أن تكون الحرب أكثر ضراوة، ما دام المنطق القبلي هو السائد وهو الحاكم، بين الأشقاء الذين تمسكوا بفطرتهم القبلية، فلم يصقلهم توحيد الإسلام، ولم تلن عريكتهم العصبية الحضارة الحديثة.

من الغريب جدا أن نسمع كل مرة أن الرياضة وخاصة مباريات كرة القدم التي تجري بين الشعوب ربما تصلح ما أفسدته السياسة، وليس ببعيد ما حدث بين تركيا وأرمينيا، حينما ذهب الرئيس التركي إلى أرمينيا لحضور مباراة في كرة القدم، فكان ذلك فاتحة لبدء عهد جديد من العلاقات الثنائية بين الدولتين بعد قطيعة واتهامات متبادلة.

ومن الغريب أيضا أن نرى العديد من قادة الدول الأوروبية يقفون إلى جانب النظام ويشجبون الشغب والفوضى كلما قام مشجعو فريق بما ينافي روح الرياضة حتى ولو كانوا من أبناء وطنهم، بل إن بعضهم قام بمتابعة من أخل بالأمن من أبناء وطنه بعد عودته، وذلك إحقاقا للحق وإبعادا لكل ما يمكن أن يثير الشقاق والفوضى، دون أن يعتبر ذلك مسا بكرامة المواطن ودوسا على حقوقه.

لكن المصيبة حينما يتعلق الأمر بما بين العرب حينذاك تظهر العنترية الفارغة والأنانية الجاهلية، وحب الوطن الزائف، والدفاع عن المواطنين المقهورين الذين “داست كرامتهم دولة عربية أخرى شقيقة، أو شعب عربي آخر شقيق”، وكأن هذه الكرامة لم يتم الشعور بها إلا في هذه الحالة!!

أين الكرامة العربية فيما يلحق العمال العرب المهاجرين في كل أصقاع الدنيا من تضييق على حياتهم ومعيشتهم وإذلال عنصري ضد دينهم ولغتهم وعرقهم؟؟ بل أين هذه الكرامة وأين هذه الحقوق داخل البلد؟؟ أين حق الحرية؟ أين حق التعبير؟ أين حق التعلم؟ بل أين حق العمل والوظيف وأين حق العيش الكريم أين حق التمثيل السياسي؟ أين الديمقراطية في الانتخابات؟  لا شيء من  كل ذلك سوى أضغاث أحلام وسوى كلام معسول يتردد على آذان شعوب هؤلاء صباح مساء عبر وسائل الإعلام المضللة.

كل هذا من منطق حرب البسوس، حرب داحس والغبراء، حيث لا تظهر الرجولة بشكلها الكامل إلا حينما يتعلق الأمر بالأشقاء، حينذاك تظهر مصلحة الوطن، وشرف المواطنين والمصلحة العليا للوطن.. ومن ثم فلا حرج أن تداس كرامة الطرف الآخر والتنديد به والتضييق عليه، وغلق المعابر، وتضييق الحصار، وحتى إذا ما قامت طائرات العدو بدك الدور والبيوت على الحدود، فلا بأس في ذلك ما دام الأمر يتعلق بتضييق الخناق على الشعب الشقيق.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>