تاريخ فلسطين المرحلة الرابعة (1940 – 1949) هزيمة العرب وسقوط فلسطين


ذ. ناجي علوش
كاتب صحفي من الاردن
انتهت الثورة وعاشت فلسطين سنوات الحرب العالمية الثانية القاسية، كانت القيادة السياسية قد تفرقت منذ 1937م، فاضطر الحاج أمين الحسيني إلى الهروب للبنان ثم العراق، واعتقل البريطانيون عددًا منهم ونفوهم، أما قيادات الثورة العسكرية فقد استشهد بعضهم، وفرَّ آخرون إلى سوريا والعراق.

وانتصر الحلفاء في نهاية الحرب، وانتصرت معهم الحركة الصهيونية، أما دول المحور فقد هزمت، وهزمت معها المراهنة الشعبية العربية عليها، ومنها المراهنة الفلسطينية. وقد كانت الحكومات العربية واقفة في صف الحلفاء.

وحين انتهت الحرب أعلنت بريطانيا في 29/1/1946م أنها ستبقي باب الهجرة مفتوحًا بعد انتهاء المدة التي حددها الكتاب الأبيض سنة 1939م، وأن لجنة بريطانية – أمريكية ستتولى التحقيق في الأمر، وقد وافقت اللجنة العربية العليا على التعاون مع اللجنة الأنجلو-أمريكية. وصدر قرار اللجنة الأنجلو- أمريكية في 20/4/1946م؛ لينص على إدخال مائة ألف مهاجر صهيوني جديد، ورفع الحظر عن انتقال الأراضي، وبقاء الانتداب حتى يكون ممكنًا قيام دولة أو دول في فلسطين.

وقد قاد هذا القرار إلى مظاهرات وإضرابات في الوطن العربي، وإلى تداعي الملوك والرؤساء العرب لاجتماع في أنشاص يومي 28 و29/5/1946م، وأعلن الملوك والرؤساء العرب أن قضية فلسطين “قضية العرب جميعًا، وأن فلسطين عربية يتحتم على دول العرب وشعوبها صيانة عروبتها”، وأضاف الملوك والرؤساء أن “لهم عظيم الأمل ألا يعكر صفو علائق المودة القائمة بين الدول والشعوب العربية من جهة، والدولتين الديمقراطيتين الصديقتين من جهة أخرى؛ أي تشبث من جانبهما يرمي إلى إقرار تدابير ماسة بحقوق عرب فلسطين، حرصًا على دوام هذه الصداقة، وتفاديًا لرد فعل ينشأ بسبب ذلك، ويفضي إلى اضطرابات قد يكون لها أسوأ الأثر في السلام العام”(1).

استكمال تشكيل الهيئة العربية العليا

كانت فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية بلا قيادة، وانتهت الحرب وفي فلسطين فراغ قيادي، فحاول مجلس الجامعة أن يحل المشكلة، وظل الأمر كذلك حتى عاد الحاج أمين الحسيني من المَنْفَى وأكمل تشكيل الهيئة العربية العليا، وأخذ نشاط الهيئة العربية العليا منذ أواخر 1946م يتزايد، وكان من ذلك أن أنشأت مكتبًا لها بالقاهرة ومكاتب في فلسطين، وأخذت تضع النظم الخاصة بسير عملها.

وكانت هنالك ثلاثة مستويات تعالج القضية الفلسطينية في إطارها:

الأول- المستوى الدولي، وعلى هذا المستوى قررت هيئة الأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق لم تشارك فيها الدول الكبرى، وقد وصلت هذه اللجنة فلسطين يوم 17/6/1947م، وقررت الهيئة العربية مقاطعتها، وطالبت الشعب بالإضراب يوم وصولها.

الثاني – المستوى العربي، وقد اتخذ مجلس الجامعة في اجتماعاته (17-29/3/1947) أن تقدم دول الجامعة المساعدات المالية للهيئة العربية، وكان مثل هذا القرار قد اتخذ في اجتماعات سابقة (8-12/6/1946)، ورغم ذلك فإن ما تسلمته الهيئة العربية العليا حتى حزيران/ يونيو 1948م لم يتجاوز 143 ألف جنيه دفعت سوريا منها 103 آلاف، وعاد مجلس الجامعة فقرر في اجتماعاته التي عقدت في لبنان (17- 25/10/1947م) ما يلي:

1 -  أن تحشد الدول العربية قطاعات من جيوشها على حدود فلسطين.

2 -  أن تقدم الدول العربية السلاح إلى عرب فلسطين الذين يقطنون في المناطق المتاخمة لليهود، وأن تخصص لذلك عشرة آلاف بندقية مع ذخائرها.

3 -  تدريب الشباب في المناطق غير المتاخمة للحدود وتعبئتهم للمعركة المقبلة، وقد أنشئت لجنة عسكرية لتحقيق ذلك اتخذت دمشق مقرًّا لها، واختارت العميد الهاشمي مسؤولاً عن شؤون التدريب والتعبئة.

وكانت الهيئة العربية العليا مع هذه القرارات؛ لأنها تمكنها من تولي القيادة في فلسطين، ومن الحصول على المساعدات اللازمة.

وعادت الدول العربية وقررت في 12/4/1948م، أي قبل موعد نهاية الانتداب بشهر وثلاثة أيام؛ إدخال الجيوش النظامية إلى فلسطين، ولم يكن هذا منسجمًا مع موقف الهيئة العربية العليا.

الثالث- المستوى الفلسطيني، فقد أخذت القيادة الفلسطينية تُعِدُّ للمواجهة، ولم تكن قد أعدت شيئًا منذ 1940م، كما أنها لم تكن مؤهلة لإعداد بنية سياسية وعسكرية، ولذلك فعندما أعلن قرار التقسيم وَهَبَّ الشعب لمقاومته، لم يكن لدى الشعب شيء من مقومات الاستعداد، فلا تنظيم كتنظيم القَسَّام، ولا مؤسسات سياسية وعسكرية، ولم تكن الأحزاب قد تحولت إلى أحزاب حقيقية، وكانت الهيئة العربية العليا حديثة التكوين، في الوقت الذي كان فيه العدو الصهيوني على أتم استعداد. وعلى المستوى العربي كان الوضع الرسمي أيضًا غير مشجع، فما كان من الشعب إلا أن لجأ إلى تشكيل لجان قومية، وأخذت هذه اللجان تجمع الأموال وتشتري الأسلحة بكميات محدودة، ويَذْكُر صبحي ياسين – أحد قادة المجاهدين- أن حيفا لم تكن فيها بندقية حربية واحدة عند إعلان قرار التقسيم، وبدأ الانفجار الشعبي، وكان هنالك عدد من المسدسات والقنابل اليدوية.

حــرب  1948م

قامت الهيئة العربية العليا بإنشاء قيادة للعمليات، وقسمت فلسطين إلى سبع قيادات عسكرية، وعيَّنت عبد القادر الحسيني قائدًا للمنطقة الوسطى.

وأخذت تتكون القوى العسكرية في هذه الظروف؛ تحت ضغط العجلة، ونتيجة الحاجة إلى وجودها، ودون إعداد مسبق. وكانت هنالك هواجس تشغل الهيئة العربية العليا، منها:

1 -  دخول القوات النظامية ودورها السياسي والعسكري.

2 -  دخول قوات جيش الإنقاذ، وهي قوات عربية بقيادة الفريق إسماعيل صفوت، وهي مرتبطة بقيادة عربية في دمشق آنذاك.

3 -  تعبئة القوى لمواجهة العدو الصهيوني.

وكان دخول قوات عربية نظامية وشبه نظامية يخلق الراحة لدى المواطنين، الذين لم يُعِدُّوا للقتال.

كان في فلسطين ثلاث قوات:

1 -  القوى النظامية العربية، وتبلغ حوالي 27 ألفًا.

2 -  قوات جيش الإنقاذ بقيادة الفريق إسماعيل صفوت وفوزي القاوقجي في فلسطين، وعددها حوالي ثلاثة آلاف، وإن كان هنالك خلاف حول العدد(2).

3 -  القوات الفلسطينية، وكانت تتكون من ثلاثة أصناف:

الأول- القوى النظامية التي تقدم لها الهيئة العربية العليا الأسلحة والعتاد، وتدفع لها رواتبها، وقدرت بين 6-10 آلاف، وهي قوى نظامية بالاسم لأنها لم تكن كذلك من حيث التدريب والقيادة والضبط(3).

الثاني- قوى محلية ترابط في مناطقها، وتقدم لها الهيئة العربية العليا ما أمكن من الأسلحة والذخائر والإعانات المالية، وعددها حوالي 15 ألفًا.

الثالث- قوى شعبية مسلحة، لا تُسَلُّح ولا تُمَدُّ بالذخائر لأنها تعتمد على إمكانياتها، وعددها يبلغ حوالي 40 ألفًا.

وقد قدمت اللجنة العسكرية لمقاتلي فلسطين 1600 بندقية فقط، أما الهيئة العربية العليا فقد قدمت 5396 بندقية، و499 مدفعًا رشاشًا، و364 بندقية تومي، و309 مسدسات ، و124 مدفعًا مضادًّا للمصفحات، و66 مدفعًا مضادًّا للدبابات، و33 مدفع هاون، وصناديق من المتفجرات والقنابل والألغام الجاهزة، وكميات من الذخيرة.

وكانت تجهيزات كل القوى العربية -بما فيها الفلسطينية – بدائية ومحدودة، وكانت بمجموعها من حيث العدد قليلة إذا قيست بالمهمات المنوطة بها، ورغم ذلك فقد كان هناك ما يمنعها من تحقيق أهدافها حتى الدفاعية، ومن ذلك عدم التنسيق بينها؛ لأن القوات النظامية كانت تتبع لقياداتها السياسية، وكانت الأهداف السياسية للدول المشاركة غير موحدة، ومن ذلك أيضًا عدم تعبئة القوى في الدفاع أو في الهجوم، وترك كل قوة تخوض معاركها وحدها، وكان التنسيق نادرًا ما يجري وبصعوبة(4).

ولذلك فقد أخذت المدن تسقط واحدة إثر أخرى، فسقطت طبرية في 19/4/48، وحيفا في 22/4، وصفد في 10/5، وبيسان في 12/5، وعكا في 19-20/5، والناصرة في 16-17/7/48 واللد والرملة في 12/7 . وهكذا.

كان الحشد العربي الرسمي والشعبي محدودًا جدًّا بالنسبة للمهمات المطلوبة، وكان قليلاً جدًّا أيضًا بالنسبة للمهمات المطلوبة، وكان قليلاً جدًّا أيضًا بالنسبة لسكان الدول المشاركة (مصر وسوريا والعراق والأردن ولبنان والسعودية)، كان الحشد الشعبي العربي أقل من القليل.

وعلى الصعيد الفلسطيني كانت القوات شبه النظامية رمزية، وكان الحشد الشعبي قليلاً جدًّا نسبة إلى ما كان يجب أن يكون عليه، وكان المستوى العسكري متدنيًا إلى أبعد الحدود(5)، وفوق هذا وذاك لم تكن هناك غرفة عمليات موحدة، ولا قيادات محلية معترف بها.

وإذا كان ممكنًا الحديث عن معارك مشرفة وعن بطولات فردية وجماعية تستحق الفخر، فلا يمكن الحديث عن عمل عسكري منظم، وعن عمليات هجوم ودفاع مدروسة جيدًا، وترابط في الإستراتيجية والتكتيك.

وكانت القوات الصهيونية في الميدان أكثر عددًا في كل مراحل الحرب، إذ بلغت 151 ألف جندي، وأكثر قدرة على الحشد والهجوم والدفاع، بينما كانت كل القوات العربية أقل عددًا في كل مراحل الحرب، وأقل قدرة على الحشد والهجوم والدفاع، وهكذا خسر شعب فلسطين الحرب، وخسر العرب المعركة.

وحين قررت الهيئة العربية العليا إعلان حكومة عموم فلسطين في غزة في 23/9/1948م؛ كانت غير قادرة على الدفاع عن قرارها، وانتهى الأمر بمطالبة الحاج أمين أن يغادر غزة.

وهكذا انتهت مرحلة من مراحل الصراع في فلسطين، واحتل العدو الأجزاء الأساسية منها، ولم يبق إلا قطاع غزة والضفة الغربية، وعاد رئيس الهيئة العربية العليا إلى مكتبه في القاهرة، وعادت معه حكومة عموم فلسطين، وكان شعب فلسطين يخضع للاحتلال الصهيوني، أو يلجأ إلى الدول العربية المجاورة.

—–

1- ناجي علوش، مرجع سابق، ص108.

2- فؤاد طهوب: حتمية الحرب وسرابية السلام، المؤسسة العربية 1979، ص78.

3- فؤاد طهبوب، المرجع السابق، ص72، يرى أن قوات جيش الإنقاذ كانت عشرة آلاف، وكان ضابطًا في جيش الإنقاذ.

4- فؤاد طهبوب، المرجع السابق، ص72.

5- فؤاد الخطيب: المرجع السابق.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>