الخيارات (وخطوط الحد الأدنى).. أمام القمة العربية


ذ. زين العابدين الركابي

بين يدي القمة العربية ـ التي ستنعقد بعد قليل في الدوحة ـ بين يديها هذه الخيارات:

1- خيار اتخاذ قرار عربي جماعي بـ>الهجرة الجماعية من الوطن العربي< : تحت وطأة التحديات والظروف الراهنة. وهذا خيار معناه: التولي يوم الزحف، بل معناه إلغاء الوجود والحياة، أو إلغاء مبدأ >التمكن< في الأرض للدخول في التيه، ليس لمدة أربعين عاما -كما حدث لبني إسرائيل في حقبة من تاريخهم- وإنما لأمد مطلق غير محدود.. ثم هو خيار غير مستطاع من حيث أنه غير عملي. فالعرب أجمعون لو قرروا الهجرة الجماعية من أوطانهم كافة، فلن يرحب بهم أحد في وطنه في عالمنا هذا.. أولم يأتكم نبأ الضيق الشديد بالجاليات العربية هناك وهنالك؟

2- خيار >البقاء في المكان< مع اجترار الخوف والعجز والنواح.. وهذا خيار يزيد البلاء، ويخدم الأعداء، وفي طليعتهم >التخلف الذاتي<. فإن هذه النقائص الثلاث تهبط بـ>المقدرة العقلية والعملية< إلى درجة الصفر، ويترتب على ذلك: سقم فظيع في الرؤية والقرار، وشلل مريع في العمل والبناء.. والنتيجة هي علاج التخلف بالمزيد منه!.

3- خيار >الاسترخاء<.. وهذا السلوك الواهن المتماوت المضعضع هو أوسع مساحة، وأرجى فرصة لتنفيذ المزيد من خطط الضغط والتعطيل والتخذيل والتفشيل المسلطة على الأمة العربية.

وهل تنفذ الاستراتيجيات والسياسات المعادية الشريرة إلا في أسوأ حالات >الرخاوة<: العقلية والإرادية والعملية؟

إن التاريخ الموثق يدلي بشهادته فيقول: إن هزائم الأمة وخيباتها العسكرية والسياسية والحضارية لم تقع إلا في أزمنة التثاؤب والترهل والاسترخاء:

أ- استرخت الأمة فسقطت الأندلس.

ب- واسترخت فاجتاحها التتار.

ت- واسترخت فغزاها الصليبيون.

ث- واسترخت فاحتلها الاستعمار.

ج- واسترخت فتمكنت الصهيونية من فلسطين.

ح- واسترخت اليوم فاشتد التحرك الساعي إلى خذلان قضاياها، والإضرار بمصالحها، والنيل من خيراتها: العقدية والثقافية والاقتصادية والحضارية، وتعطيل نهضتها، وضرب أمنها الجماعي.

4- خيار >الثبات في المكان< على نحو أرسخ من ثبات إسرائيل، فإذا كان قد قيل: إن إسرائيل وجدت لتبقى، فإن المقولة الزائدة عليها في القدر والمضادة لها في الاتجاه هي: أن العرب وجدوا في هذه >الجغرافيا العربية< قبل إسرائيل، وسيبقون بعدها.

5- خيار >التصميم على التفوق أبدا<: في كل مجال، بيد أن لهذا الخيار مقتضياته الجادة والموضوعية وهي ـ بإيجاز ـ: >تكوين رؤية عربية أمنية وسياسية واقتصادية واستراتيجية وحضارية متكاملة< تكون منبعا ومرجعية للقرارات المشتركة في هذه المجالات جميعا.. ويشترط في هذه الرؤية أن تكون عملية غير عاطفية.. واضحة غير مبهمة.. مفصلة غير مجملة.. واقعية غير خيالية.. جسورة غير جبانة ولا مترددة، أي أن تنتظم هذه الرؤية >عناصر النهضة< كافة، ولا تركز -فقط- على الجوانب العقدية والتاريخية والسياسية، ذلك أن الحياة العصرية وصراعاتها وتحدياتها تنتظم أيضا: الاقتصاد، والثقافة، والاجتماع، والإعلام، والفن إلخ.

والخياران >الرابع والخامس< هما اللائقان بأمة تريد أن تحيا: لا أن تهاجر، أو تنوح، أو تسترخي.

وهما خياران يرقيان إلى مرتبة >الضرورة< : العقلية والسياسية والتطبيقية.

فهناك >الضرورة الوطنية<.. وليس لمفهوم الأمة أي دلالة عملية أو واقعية في غياب البنى الوطنية.. فالأمة الكبرى إنما هي حاصل جمع الأوطان.. وتتمثل الضرورة الوطنية في المحافظة الحازمة على >الموجود الوطني< -معنويه وماديه-.. والمحافظة على درجة الاستقرار المتوافرة.. وعلى مستوى من النمو متصاعد النسب.. وعلى >الوحدة الوطنية<، إذ لن يفلح قوم ـ في أي حقل ـ: أمرهم فرط، وصفهم ممزق.. لن يفلح قوم ـ على المستوى القومي العام ـ وساحتهم الداخلية متنافرة متناحرة.

وهناك >الضرورة القومية<.. فالتحديات الكبيرة العامة لا يستطيع أن يواجهها أحد أو وطن بمفرده، بل تتطلب مواجهتها تجمعا وتكتلا وتضامنا.. وليس يماري عاقل في أن الأمة تواجه اليوم تحديات كبرى من كل نوع.

ولسنا من الخياليين الذين ينادون بـ>وحدة ناجزة<: اقتصادية وسياسية، أو بملف عسكري كامل ذي قيادة مركزية واحدة.. ولكن إذا صعب تحقيق >المثال<، فمن المستطاع تحقيق >الحد الأدنى< من التماسك القومي.

ما الحد الأدنى القومي الذي يقضي العقل والضمير والمصلحة بألا تنزلق الأقدام دونه: إلى الهاوية؟.

فيما يلي يمكن >رسم الخطوط العريضة< لهذا الحل الأدنى المطلوب والذي لا يتصور عمل عربي جماعي بدون وجوده:

1- التواصي الصدوق والجاد بأن كل الطرق موصدة، وليس أمام العرب إلا طريق واحد مفتوح ومأمون وهو >طريق التقدم إلى الأمام< في كل حقل وميدان: إقبالا من غير إدبار، وركضا نحو المستقبل من غير عكس ولا نكس. فالوقوف خسران وخيبة، والحركة الدائرية البطيئة المكررة موت بالتقسيط، أما التراجع فهو قفز بالظهر إلى الهاوية، وسقوط سريع فيها. إن هذا التقدم تمليه الضرورات الوطنية والقومية التي ذكرت آنفا.

2- النقاهة الجماعية العاجلة من >حالة الاسترخاء<: الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني >بالمعنى الاستراتيجي<.. وحالة الاسترخاء الحضاري بوجه عام.. فليس يمكن تقدم ولا عمل جاد ـ في أي حقل ـ والعيون ناعسة، والأفواه مملوءة بالتثاؤب، والإرادات رخوة، والخطوات مثّاقلة إلى الأرض، والأمخاخ مخدرة أو منومة.

3- تخصيب الجبهات الداخلية وتمتين نسيجها بمزيد من الحريات العامة وسائر الحقوق التي تتحقق بها كرامة الإنسان ويحترم عقله ويتعزز دوره.. فليس لأي نظام سياسي سند حقيقي إلا >الناس< الذين يحكمهم ويعيشون في ظله.. وكلما تمتع هذا السند بحقوقه، كان أكثر التصاقا بالنظام السياسي، وأقوى تأهبا للدفاع عنه.. وعندئذ ينكسر سلاح الخصوم، أي سلاح تهديد الأنظمة بتثوير جبهاتها الداخلية وتحريضها على قادتها.

4- الالتزام الحقيقي ـ من الأطراف كافة ـ بعدم التدخل في شؤون الأخ الخاصة، وفطم اللسان عن الهجاء الإعلامي، وتسوية المشكلات والخلافات بروح الرجال الكبار.. ويلحق بهذه النقطة: التواصي المسؤول والراقي بجعل الإعلام >أداة تفاهم وتآخ< بين الشعوب العربية.. فالتجربة العربية المرة تقول: إن الشقاق المميت بين العرب عبر عقود عديدة كان الإعلام النزق سببه وغذاءه ووقود نيرانه.

5- الاستعصاء الإرادي الحازم على الاستجابة للإغراءات الخبيثة التي تصنف العرب إلى قوم معتدلين وآخرين متطرفين، أو إلى موالين للغرب ومعادين له!!. فأجندة التصنيف هذه لا تريد مصلحة ولا خيرا لأي عربي، بل هي أجندة تدخل في نطاق استراتيجية كريهة معادية نستطيع تبيّنها في الفقرة التالية.

6- العمل الجماعي على تفشيل الاستراتيجية الإسرائيلية الأساسية في هذه المنطقة وهي: أن تقدم إسرائيل واستقرارها وتفوقها مشروط بتمزيق الوطن العربي، وتصديع إرادته، وتفتيت قراره وتشتيت موقفه.. وإنما يكون تفشيل هذه الاستراتيجية بمزيد من تضامن العرب.

7- تصعيد >العبرة المرة< إلى بؤرة الوعي الاستراتيجي بمهددات القادة العرب.. ونقصد العبرة المشحونة بالغرابة والإيحاء الخبيث تجاه عدد من الرؤساء العرب في السنوات الخمس الأخيرة.. فواحد سموه.. وثان فجروه.. وثالث شنقوه.. ورابع يتظلمون على اعتقاله.. فمن الخامس؟.. من السادس؟!.

8- التفكير الجاد والناجز في إيجاد آلية مشتركة فاعلة. مثال ذلك إيجاد >غرفة إنذار مبكر< أو >غرفة طوارئ للأمن العربي<.. ووظيفة هذه الآلية هي -بالتحديد- إصلاح أو معالجة كل وضع في أي بلد عربي يتخذه الأعداء ذريعة لتهديد أمن قطر ما وتهديد الأمن العربي كله من ثم.. وأبرز حالة في هذا المجال هي حالة السودان.. ومفهوم أن هذه الآلية ليست رخصة للتدخل في الشؤون الداخلية البحتة. وإنما هي آلية لمعالجة أي وضع يترتب عليه ضرر جسيم بالأمن العربي كله.

> الشرق الأوسط ع 2009/3/28

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>