قراءة في كتاب -”التوحيد والوساطة في التربية الدعوية” د. فريد الأنصاري


قراءة في كتاب

كرس الالتباس بين قيم الدين المعصومة وفهم الناس للدين الذي يجري عليه الخطأ والصواب، مجموعة من الأخطاء، وحال دون طلاقة الفكر في الاجتهاد والنقد والتصويب والتقويم والمراجعة… ظنا أن نقد الاجتهاد أو نقد فُهوم الناس أو نقد بعض صور التدين والممارسات هو نقد لقيم الدين نفسه على اعتبار أنه نقد لما يحملونه من قيم ومبادئ معصومة، وقد يوصل هذا صاحبه إلى الكُفر، حيث الادعاء والزعمُ أن الذي ينتقد حَمَلة الشريعة ينتقد الشريعة نفسها، والذي ينتقد الشريعة، يكفر بمُنَزِّلها. كل هذا كان بمقدوره بسط نوع من التحجر الفكري، شلّ التفكير وحاصرهُ وحرّم عمليات النقد  والتقويم والمراجعة لتتسع دوائر الإنحراف وتُحاصر قيم الدين الخالدة بمفاهيم البشر النسبية القاصرة وتنتقل بذلك من قيم الكتاب والسنة إلى آراء البشر لتُصبحهي مصادر الدين والتدين وما في ذلك من تفرقة أمر الدين.

بل ولعلها انزاحت إلى أفضع من هذا، ألا وهو اتخاذ آلهة من دون الله، واتخاذ الأرباب التي ألحقت الفساد الكبير في تديّن الأمم السابقة على الإسلام، ليصير الإنسان أو  رجل الدين هو المتحدث باسم الله، ويُتخذوا على نقصهم وضعفهم وقصورهم ونسبيتهم وخضوعهم لظروف الزمان والمكان أربابا من دون الله.

وقد جاء هذا الكتاب في جُزءيْه اللذين بين أيدينا متناولا قضية التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، الضية المحورية التي تُعتبر من أخطر القضايا في مجال التحرر من العبوديات واسترداد إنسانية الإنسان.

ولما كان الصراع دائما متمركزا حولها دائرا في ميدانها تتبع الباحث د. فريد الأنصاري طرحه للقضية في النبوة الخاتمة وما اعترى أصحابها من الإصابات وذلك من خلال التتبع العلمي الموثق، وقد كثّف عُنوان الكِتاب مضمون وفحوى ما جاء به بشكل مكّن القارئ من وضع تصور بدئي وانطباع أولي حول مضمونه بيّن أنه رغم كثرة التصورات والمناهج التربوية المقترحة والممارسة، إلا أنها لا تخرُج إجمالا عن نوعين تربويين هما :

>- اتجاه توحيدي : يستلهم المنهاج النبوي التربوي بناء على مناهج الاستنباط الشرعية من نصوص القرآن والسنة.

>- اتجاه وساطي : يجمع كل التصورات والمذاهب التربوية القائمة على أساس وجود الوسيط التربوي الذي قد يكون شيخ مدرسة سلوكية أو شيخ مدرسة فكرية عقلية.

وحتى يتسنى للقارئ الاضطلاع الأفيد بالموضوع، ارتأى الكاتب تحديد مصطلحات مدار البحث، وهي : التربية والتوحيد والوساطة، تحديداً لغويا وآخر اصطلاحيا، أي حسب ما وردت عليه في التداول الاصطلاحي الدعوي، وذلك في ثلاثة مباحث، حتى يكون المبحث الرابع لعقد مقارنة بين المصطلحين الرئيسيين في هذا المبحث أي التوحيد والوساطة وقد أجمل عناصر المقارنة في ثلاث قضايا أساسية هي :

أولا : التربية بين المصدرية والمرجعية.

ثانيا : التربية بين المربي والوسيط.

ثالثا : التربية بين التكوين والتلقين.

وقد شرح في ذلك ما شرح، وفصل ما فصل، حول الاختلافات والفوارق بين كل من التربية التوحيدية والتربية الوساطية، أي التربية بين التكوين والتلقين، مما وضح للقارئ الهوة الشاسعة بين كل من المتربي تربية توحيدية محضة، وبين المتربي تربية وساطية سواء كان الوسيط فيها مفكرا أو شيخا، ولعلّ الأسلوب الذي نهجه الباحث جعل من السهولة بمكان الاهتداء إلى مواقع الخلل التي أورثت الأمة المسلمة الوَهن، وأقعدتها عن متابعة دورها في الشهادة على الناس.

وكان مما زاد حلاوة مبحثه تقديمه النموذج والمدرسة النبوية في فصله الثاني، فقد دأب الرسول عليه أزكى الصلاة والسلام، على تأسيس عقيدة التوحيد، موجها تربية الصحابة الكرام على أساسها، من خلال الارتباط بالقرآن أولا وأساسا ثم تعميق الاتجاهالتوحيدي في قلوبهم، ثم كخاصية ثالثة للتربية النبوية اعتماد منهج التكوين وبهذا النهج الثلاثي الأبعاد المتكامل القواعد يكون الرسول المربّي  مكونا لا ملقنا ومربيا لا وسيطا.

ولم يكن ذلك عبثا بل متدرجا عبر مراحل منهجية، استغرقت زمن النبوة واتخذت تجليات مختلفة حسب طبيعة كل مرحلة من مراحل الدعوة، ويبقى أن نشير إلى أن التنوعات التربوية التي عرفها المنهج النبوي نفس الجانب الإجرائي فقط، وتعمل على ترسيخ البعد التوحيدي بكل خصائصه، ويمكن حصر المراحل حسب ثلاث نقاط : الأولى هي المرحلة الأرقمية وقد كانت قبل الهجرة إلى المدينة وترتكز على صِناعة العقلية القيادية اعتمادا على القرآن، ثم المرحلة المنبرية، إشارة إلى ما قام به الرسول  من تربية للصحابة على المنبر، وهي توحيدية في الجوهر لما تقوم به من اعتماد النص القرآني أولا وما تفسره سنته  ثانيا، وهذه المرحلة لصناعة العقلية الجندية الفاعلة والمبادرة. وأخيرا المرحلة العلمية حيث أن المنهج التربوي التوحيدي هذا اكتسى وجها علميا وتعليميا وذلك في أواخر حياته  بعد أن حصل تراكم على مستوى النصوص القرآنية والحديثية وكذا من ناحية الأفواج والأعداد الهائلة التي دخلت في الإسلام.

وعلى ذلك سار الرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم حيث اضطلعوا بالمسؤولية التربوية التي كلفهم بها في حياته عليه الصلاة والسلام، واستمروا في تنزيل المضمون التوحيدي للتربية في الإطار التعليمي على العموم مع مراعاة الأهداف والوسائل الأرقمية والمنبرية، إلى أن بدأت تظهر خلال القرن الثالث الهجري مظاهر الانتقاص التربوي من خلال ما صار يتكون من مناهج وساطية، نظرا لدخول الثقافات الأجنبية التي بدأت تزاحم المصدرية القرآنية والحديثية ولم يستتب لها الأمر إلا في القرن الرابع الهجري حيث كثُر الإقبال على الوساطات الفكرية والروحية على السواء.

وليكون بهذا الجزء الأول من الكتاب الأرضية الخصبة التي مهد بها الحديث عن أصل المشكلة الأساس في الخلل الذي لحق بالتدين، أي “آلوساطة” ليستقرئ بذلك في الجزء الثاني حركات التجديد والتصويب، وقد علق في مبحثه الأول على نموذج الوساطة الفكرية بين المتكلمين والفقهاء أي بين المدرستين الكلامية والفقهية، أما مبحثه الثاني فقد تناول فيه نموذج الوساطة الروحية لدى المتصوفة وذلك باستعراض التربية الوساطية في فكر الغزالي ومظاهر الوساطة في التربية الطرقية وأخيرا بعض الصور من الوساطة الطرقية من خلال كتاب الابريز، ولعلها بينت بجلاء مظاهر الوساطة التي أُغرق فيها المسلمون في عصور الانحطاط، وكشفت النقاب عن كل من يدعي غير ذلك مُبطِلا حسّه النقدي، ومغتالا تعليله العقلي.

وضمن في فصله الخامس، نماذج بارزة في المدرسة التأصيلية الداعية إلى التوحيد حسب القرون التي تلت عصور الإنحطاطوليكون عبد الرحمن الجوزي نموذجه للقرن السادس وابن تيمية والإمام الشاطبي نموذجيه للقرن الثامن الهجري، أمّا مبحثه الثالث فقد خصّه للامام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر.

وشملت مباحثه الثلاثة هاته، مقاطع متفرقة من كتبهم الداعية إلى التوحيد والنابذة لكل أشكال الوساطات.

وأخيرا وليس آخرا، جاء في فصله السادس والمندرج في مبحثين مظاهر التربية الوساطية والتوحيدية في حركة الوعي الإسلامي الحديث وليضع القارئ أمام الصورة بين كل من دعاة التوحيد ودعاة الوساطة، ولعل أغلب أمراض حركة الوعي الإسلامي الحديث ترجع بالأساس إلى الوساطة في مناهجها التربوية والتي أنتجت التفرقة المذمومة والتآكل الدوري المفرغ.

وحبّذ أن يُنهي كلامه بنداء لكل حركات الوعي الإسلامي الحديث للشروع في فصل جديد من تاريخ العمل الدعوي قصد توحيد الجهود وتركيزها في اتجاه مجاهدة المد المعادي للإسلام واتجاه إقامة دين الله والتمكين له في الأرض، وذلك عن طريق توحيد التصور التربوي وانتاج حوار داخلي في صفوف حركة الوعي الحديث على مختلف أشكالها وأنماطها، حوار هو منهج التخاطب الموحد والبحث في منطلقاته المصدرية وأدواته المرجعية.

مريم زين العابدين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>