رحلة التغيير تبدأ من الذات(3)


ما يــراه الآخرون فينا ولا نستطيع أن نــراه

تحدثنا في الجزء الثاني من سلسلة هذه المقالات عن المراحل الأربع التي يمر بها الإنسان عندما يكتشف حقيقة جديدة عن نفسه. فيبدأ بالإنكار، ثم المقاومة، ثم ينتقل إلى الاستكشاف لكي يصل في الأخير إلى مرحلة الالتزام. والناس في التدرج من مرحلة إلى أخرى مستويات، بحسب نضجهم النفسي وخبرتهم في الحياة وكذلك البيئة التي من حولهم. كما ذكرنا أن الالتزام بتغيير الذات يقتضي أن يوقع كل منا عقدا مع نفسه يعود إليه ويراجعه ويقيس درجة التطور الذي حققه.

واليوم نتدارس معا جانبا هاما من رحلة تغيير الذات، تناولته الدراسات المتخصصة في السلوك الإنساني الاجتماعي والنفسي داخل المؤسسات organizational behavior، ويتعلق الأمر بسلوكيات يراها الآخرون فينا ولا ندركها نحن  blind spots ، وتؤثر على تعاملنا معهمونتساءل أحيانا لماذا. والعلاقات التي ننسجها يوميا، كما تنسج الرتيلة شبكة عشها، بالغة التعقيد والتداخل، حتى أن الواحد منا ليذهل للكم الهائل من الانطباعات والملاحظات عن الآخرين والتي تجتمع لديه يوميا وهو يدب في الأرض يمينا وشمالا. وديناميكية العلاقة مع الآخرين وما ينتج عنها من معرفة فردية وجماعية بالذات وبالآخر يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام، والجدول الذي يلي يلخص هذه الديناميكية.

الآخرون

دعونا نقرأ هذا الجدول خطوة خطوة. فعلاقتنا بالآخرين تتداخل من خلال أربعة أبعاد:

1- ما أعلمه وما يعلمه الآخرون: وذلك من خلال مساحة العلاقات الاجتماعية الظاهرة للجميع. فالناس في الحي يعلمون أن أحمد مثلا يعمل في مؤسسة معينة وأنه يملك سيارة معينة وأنه يصلي في مسجد كذا … وهذه المعلومات تختلف دقة وعمومية باختلاف سعة رقعة العلاقات وضيقها، وقرب الآخرين منا وبعدهم. وهذاالمجال من العلاقات تربة خصبة لكل المظاهر الاجتماعية العامة، فقد ترتع فيها سلوكيات الرياء، وفيها نحرص على احترام العرف الاجتماعي العام وتجنب مواطن الشبه الخ. وتغيير الذات في هذا الجانب من العلاقات تنظمه مجموعة من القيم التي تنظم معايير القبح والجمال، والخير والشر، والمسموح والمحظور.

2- ما أعلمه وما لا يعلمه الآخرون: وهي حياتنا الخاصة التي لا يطلع عليها غيرنا. وهذا عالم الأتقياء الأخفياء، وعالم من يأتي يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة ثم تُنسف كأن لم تكن لأنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها كما جاء في الحديث. وقد يغرق الإنسان في السرية بسبب فقدان الثقة بالنفس. والعلاقات التي تنبني على حب الله، أو التي تهدف إلى تحقيق رسالة معينة تخدم قضية كبرى مثل رفاهية المجتمع أو وحدة الوطن، أو المشاريع الخيرية مثل كفالة الأيتام تساعدنا على الخروج من دائرة الخصوصية التي تفوت علينا فرص التعرف على الآخرين والاستفادة منهم. وهناك مجال آخر تكون الخصوصية فيه غير محمودة وهو الإحجام عن تبادل المعرفة والعلم الذي يكتسبه الإنسان. وهذا أمر رائج في مؤسساتنا، فالمعلومات مصدر قوة وتعطي صاحبها فرصة السبق في مواقف كثيرة. غير أن المعرفة بطبيعتها تزيد كميةً وقيمةً عندما نشاركها الآخرين، على عكس الأشياء المادية التي تنقص قيمتها كلما زاد استخدامها. والمعرفة عند المسلمين لها مفهوم متميز، فكل ما نكتسبه من معرفة ينبغي علينا أن نعلِّمه للآخرين ففي ذلك زكاة للعلم. فالعلم عندنا إذا لا بد أن تتم الزكاة عليه مثل زكاة المال، فلنتخيل حال مجتمع يسعى كل واحد فيه إلى تبادل المعرفة مع الآخرين، ليس امتنانا أو رياء، ولكن اعتقادا أن العلم ينبغي أن يزكى والامتناع عن ذلك عاقبته أن يلجم المرء بلجام من جهنم كما ورد في الحديث. فالإنسان الذكي اجتماعيا يسعى إلى تقليص دائرة الخصوصية غير المحمودة إلا في المواطن التي تقتضي ذلك.

3- ما يعلمه الآخرون لكن لا أعلمه: وهذا بيت القصيد في رحلتنا نحو تغيير الذات. وأغلب أسباب الفشل في الحياة تأتي من هذا الجانب المعتم من حياتنا، ولا يخلو إنسان من ذلك، إلا أن الناس في ذلك درجات. وفي هذا الركن من حياتنا تكمن النقاط الخفية علينا والتي يراها ويعلمها غيرنا blind spots فقد يكون المدير مخلصا في عمله ويحقق الأرباح المرجوة، غير أنه في لحظات الأزمة وضيق الوقت واختلاف وجهات النظر يسلك سلوكا ينفر الآخرين منه ولا يراعي آراءهم وهو في ظنه أن ذلك من الإخلاص في العمل والحرص على تحقيق المصلحة العامة، غير أنه فقد حب الآخرين وولاءهم وقد ينجح في مشروع أو مشروعين، لكنه يستغرب إذا علم أن أفضل العاملين معه قرروا مغادرة العمل والبحث عن بيئة أفضل. والأخطر من هذا كله أن ينفر منه الآخرون ويستمروا في العمل غير أنهم في عداد المستقيل نفسيا وإن لم يتقدم بخطاب الاستقالة. فالنقاط الخفية هي وجه آخر لمواطن الغفلة ومغالطة النفس دون علم من صاحبها. وفي التناصح feedback أنجع وسيلة لاكتشاف النقاط الخفية كما أن التعامل مع الآخر باعتباره مرآة لنا وطلب رأيه فينا يخلق ثقافة التناصح في مؤسساتنا، والحديث الشريف وصف المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فالإصرار على الخصوصية المغرقة يخلق علاقات اجتماعية مهلهلة تكاد تندثر إذا جاءتها ريح عاصف، فالجار لا يعرف حتى اسم جاره، والموظف يعلم مواطن الضعف عند زميله فلا يناصحه بل يقضي جلسات الشاي والقهوة في تمزيق لحمه وهتك أسراره والتشهير به بين الناس، فلا هو أفاد ولا الناس استفادوا. وقد تطورت السبل العلمية التي تساعدنا على الحصول على رأي الآخرين فينا وفي أدائنا مثل التقييم رباعي الأبعاد 360 degree feedback. وقد ذكرنا سابقا أننا نمر بأربع مراحل عندما نكتشف شيئا جديدا عن أنفسنا من خلال الآخرين، أولى هذه المراحل الإنكار بسبب الصدمة، والإنكار غالبا ما يرتبط باكتشاف النقاط الخفية فتكون الصدمة قوية، ومن الذكاء الاجتماعي أن نعي أن لكل إنسان نقاطاً خفية فإذا أعناه على كشفها يقتضي الحال منا أن نأخذ بيده حتى يتمكن من تجاوز مرحلة الإنكار. وتشريع الدعاء له فائدة عظيمة فهو وسيلة لطلب الاهتداء إلى النقاط الخفية ومواطن الغفلة، فمن أسماء الله الحسنى العليم والمهيمن والخبير واللطيف، فالتوجه إلى الله بهذه الأسماء هو اعتراف من الإنسان بأنه قد تخفى عليه أشياء عن نفسه، وهو يتوجه إلى الله لأنه عليم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو مهيمن يهيمن على الأشياء كلها، أولها وأخرها، وهو الخبير بخفايا الأشياء، وهو اللطيف يعلم دقائق الأمور وعظامها. فالعباد يتناصحون ويرى كل واحد منهم نفسه في الآخر كالمرآة، فإذا صفت المرايا جلت الرؤى وتجلت الحقائق ولم يعد للنفس حظ وهذا هو العلاج. ورب العباد يربي ويجيب الدعاء ويحول النفس من حال إلى أحسن حال. فالرحلة نحو التغيير تبدأ بالإدراك أن فينا نقاطا خفية لا نعلمها ويعلمها غيرنا، ثم الحرص على استكشاف هذه النقاط الخفية بالتناصح والتقييم رباعي الأبعاد مثلا واختبارات القياس النفسي.

4- ما لا أعلمه ولا يعلمه الآخرون: وهذا عالم اللاشعور، ويظهر في الأحلام وبعض الأفكار المفاجئة، وهو عالم يسبر أغواره المحللون والمعالجون النفسيون.

وخلاصة القول أن خلق ثقافة التناصح feedback هو حجر الأساس لتجنب زلات النقاط الخفية فينا، ومنظومة القيم التي شرعت لتنظم حياتنا نحن المسلمين كفيلة بخلق أفراد يتمتعون بذكاء اجتماعي متميز، يقيمون مؤسسات مبدعة تؤسس أمة حضارية وتسعى لإعمار الأرض.

————

د.فؤاد ميموني

البنك الاسلامي للتنمية -جدة-السعودية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>