الـمدارسة القرآنية 1


مشروعيتها -منهجها -ثمارها وفضائلها

تقديم

تحدث د. محمد الأنصاري في هذا المقال عن واجباتنا نحو القرآن الكريم، ومنها : واجب القراءة، وواجب الاستماع والإنصات وواجب الترتيل وواجب التدبر وواجب التعليم والتعلم وواجب الدعوة إليه وبه وواجب تعظيمه وتقديسه وواجب البحث والدراسة العلمية الأكاديمية.

وبعد ذلك تحدث عن المدارسات القرآنية ومشروعيتها ومنهاجها وثمارها وفضائلها، فقال :

المدارسات  القرآنية

إن المدارسة القرآنية هي أم الواجبات  المتقدمة وأساسها، ففي إطارها يتم واجب القراءة بمنهج الترتيل، ويتم الاستماع والإنصات للقرآن، ويتم التعلم والتدبر، ولهذا فإن الحديث عنها يقتضي تفصيل الكلام في معناها ومشروعيتها ومنهجها وثمارها وفضائلها.

1- معناها : المدارسة مشتقة من مادة “درس”، يقال درسَ الكتابَ يدرُسه دَرْساً ودراسةً، أي ذللـه بكثرة القراءة حتى انقاد لحفظه، ودرس الكتاب: تَعَلَّمَهُ، ويقال درست السورة أي حفظتها. والمُدارِسُ، الذي قرأ الكتب ودرسها، والمِدْراس: البيت الذي يُدْرَسُ فيه القرآن، وفي الحديث: >تدارسوا القرآن<(1)؛ أي اقرأوه وتعهدوه لئلا تنسوه. وأصل الدراسة: الرياضة والتعهد للشيء(2)، والمدارسة من هذا القبيل. يقال تدارس القوم القرآن: أي قرأوه وتدبروا معانيه وقلبوا النظر في فهمه واستخلاص هداه، فالمدارسة على صيغة مُفَاعَلة، والتدارس على وزن التفاعل، والمراد بها المشاركة الجماعية في فهم القرآن وإدراك أسراره واستنباط بصائره وهداياته.

2- مشروعيتها: المدارسة القرآنية مشروعة بالقرآن والسنة، فأما القرآن فقوله تعالى: {ولكن كونـوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }(آل عمران: 78)، وأما السنة فحديث ابن عباس رضي الله عنهما قــال: >كان رسول الله  أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله  حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة<(3). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (…ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده…)(4).

3- منهجها: إن الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم هو أساس النجاح في كل شيء، إذ بقدر التفقه في المنهج والرشد فيه، يكون مستوى النجاح كما وكيفا.

ومن هاهنا فإن نجاح المدارسة يتوقف على مدى النجاح في اتباع منهجها الخاص، فالقرآن الكريم وظيفته الأساس هداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ولعل هذا هو السر في تكرار الفاتحة في كل الصلوات المفروضة والمسنونة لتضمنها دعاء خاصا في بيان القصد من القرآن ووظيفته الأساس:  {اهدنا الصراط المستقيم}. إنها وظيفة الهداية للتي هي أقوم وأرشد في التفكير والتعبير والتدبير، وهي المشار إليها في قوله تعالى:{إن هـذا القـرآن يهدي للـتي هـي أقوم}[الإسراء : 9)، فبلوغ مرتبة الأقوم في الهداية يتوقف على اتباع المنهج الأقوم في تدارس القرآن الكريم. والمدارسة القرآنية لها منهجها الخاص الذي به تتم، وهو منهج يقوم على قاعدتين:

قاعدتا المدارسة القرآنية

> القاعدة الأولى: قاعدة : “اقرأ وتدبر ثم أبصر”، وهذه القاعدة تهم الدارس للقرآن بمفرده، وتهم المجتمعين لمدارسته، فهي السبيل لاستخلاص الهدى المنهاجي من القرآن الكريم، وبيانها في حقيقتين:

أ- حقيقة واجب التحقق بالقرآن: والمراد بها، التحقق بالقرآن فهما وإدراكا وعلما، إذ بهذا التحقق يستقيم الفكر ويصح الفهم عن الله تعالى، ولا يتم هذا إلا بالقراءة أولا ثم التدبر ثانيا، القراءة بمعنى التلاوة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله)، والتدبر بمعنى التأمل والتفكر في المقروء لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}(محمد:24)، إنه تدبر يتجاوز مرتبة دائرة التدبر بالعقول إلى مرتبة التدبر بالقلوب ليتحقق بذلك الإبصار، وهو إبصار يتجاوز الإبصار الفردي إلى الإبصار الجماعي للبصائــر القرآنية وهداياته المنهاجية.

ب- حقيقة واجب التخلق بعد التحقق: وهي حقيقة تخص الفرد الدارس والجماعة، وسبيلها التبصر بعد القراءة والتدبر والإبصار. والإبصار هنا :

- إبصار العقول الواعية والقلوب الحية للطريق المستقيم والمنهاج القويم، قال تعالى: {قـد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها}(الأنعام :104).

- وإبصار للنور القرآني والهدى الرباني وتبصر بهما: {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}(الشورى: 52).

-  وإبصار للميزان الذي به يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والنور من الظلام: {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون}(الجاثية: 20).

-  وإبصار لمنهج القراءة العام: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1)، سواء تعلق الأمر بقراءة الوحي أم بقراءة الأكوان والمخلوقات؛ فالمقروءات كلها ينبغي أن تقرأ باسم الله حتى يتحقق المقصود منها وتعرف أسرارها.

- وإبصار لحقيقة الله تعالى خالق كل شيء وحقيقة غيره من المخلوقات، وذلك بالرحيل من الأكوان المخلوقة إلى المكون الخالق سبحانه وتعالى.

-  وإبصار للأولويات وتبصر بالعمل بها. وإبصار لمنهج العدل القرآني، ولمنهج تسخير السنن الكونية وعمارة الأرض بما ينفع الناس، فإرسال الرسل وإنزال الكتب إنما كان القصد منهما ذلك، قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شـديـد ومنافع للناس}(الحديد:24).

وخلاصة الأمر ، فإن المراد بحقيقة التخلق : التخلق بالهدى المنهاجي المستنبط من الوحي، وذلك بالاهتداء بهدايات القرآن، واتباع منهجه والاستقامة عليه، {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}(هود : 112). فالاتباع والاستقامة هما سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: “{فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(الأعراف : 157).

> القاعدة الثانية : قاعدة: ” أخذ القرآن بمنهج التلقي”(5)، فالواجب على الدارس للقرآن فردا كان أو جماعة يجتمعون في مجلس للمدارسة، فالواجب عليهم جميعا أن يتعاملوا مع القرآن بهذه القاعدة المنهجية في تلقي القرآن، فالتلقي هنا تلقي خاص، المراد به استقبال القلب للوحي، وهو على ضربين:

- استقبال على سبيل النبوة، وهو خاص بالرسول ، لقوله تعالى: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}(النمل: 6)، فهو تلقي لرسالة الوحي من الله تعالى، اقتضته طبيعته: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا }(المزمل: 5).

- واستقبال قلبي للوحي على سبيل الذكر، وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي، وقصد به التذكر، {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}(المزمل:17 ).

فالمتدارسون للقرآن في مجالس المدارسة ينبغي أن يستقبلوا القرآن بهذه الكيفية وكأنه ينزل عليهم في تلك اللحظات غضا طريا، إنه استقبال بمعنى الإنصات الكامل للقلب والعقل إلى كلام الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطبهم، ثم يتدبرونه بتقليب النظر وإجالة الفكر فيه، ليتحقق بذلك الإبصار ثم التبصر والاهتداء بهداه.

4- ثمارها وفضائلها: للمدارسة القرآنية ثمار جليلة وفضائل عظيمة وكثيرة، فالمدارسة خير كلها وبركة كلها، فالله تعالى يبارك فيها فيفيض بنوره على المجتمعين لمدارسة قرآنه، فيثمر ذلك ثمارا نافعة وفضائل عديدة، منها:

أ- أن المدارسة سبيل التعلم والتعليم: فالعلم الحق هو علم القرآن، والمدارسة هي السبيل إلى تحصيل هذا العلم، العلم بأحكام القرآن ومعرفة أسراره وحكمه، واكتشاف بصائره المبثوثة في سوره وآياته، قال تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تُعَلِّمون(6) الكتاب وبما كنتم تدرسون}(آل عمران :79). فالرسول  إنما تعلم القرآن وفهم معانيه ومقاصده وأسراره، وطريقة تنزيله، بالتدارس، فقد كان جبريل -كما جاء في حديث ابن عباس المتقدم- يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن.   والصحابة الكرام إنما تعلموا القرآن وعلموه بمنهج مدارسة الرسول  القرآن لهم،وبمجالسهم الخاصة بتدارسه فيما بينهم.

ب- أن المدارسة سبيل تزكية الأنفس، فالتزكية إحدى الوظائف الأساسية للقرآن، وحصولها يتم بالمجاهدة الفردية والجماعية كما هو الحال في مجالس المدارسة القرآنية، لقوله تعالى: {هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}[الجمعة: 2). ففي هذه المجالس يتعلمالجلساء علم القرآن، ويتربون على معاني الخير وقيم الصلاح التي تزكو بها النفوس وتتطهر القلوب، وهذا ليس غريبا في مجلس قرآني تحف أهله الملائكة الأطهار.

ج- أن السكينة تتنزل على المتدارسين للوحي وتحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده

والشرط في تحقق هذه الفضائل العظيمة: المدارسة الجماعية للقرآن المعبر عنها في الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه… ) .

د- أنها سبيل التذكر والتبصر، فالحاضرون لها إنما يدفعهم للحضور رغبتهم في فهم القرآن والاستفادة منه، فيوفقهم الله تعالى وييسر لهم سبل التذكر، قال تعالى:{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}(القمر: 17) .

ه- أن القلوب تطمئن فيها بذكر الله، لقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب}(الرعد: 29).

و- بها تتحقق النذارة والخشية من الله في الدنيا ومن عذابه في الآخرة، لأن مادتها هي القرآن، ووظيفته الإنذار لقوله تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون}(الأنعام: 52)

ز- أن القلوب تخشع فيها لذكر الله، لأن المجتمعين اختاروا التعامل مع القرآن وآمنوا بأنه الحق المنزل من الله، فخشعت قلوبهم له، قال تعالى: { ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحـق }(الحديد: 16).

ح- أن المدارسة والتدبر الجماعي في القرآن تتكشف بهما حقائقه ومعانيه وأسراره وحكمه، فيكون ذلك أدعى لاستخلاص الهدى المنهاجي منه.

وخلاصة الأمر، فإن غاية المدارسة الأساس هي استخلاص هذه الثمرة، ثمرة الهدى المنهاجي وتجميعه في برنامج عملي يضم أهم العناصر التربوية والدعوية، النظرية والعملية التي يجب الاشتغال بها، تحققا وتخلقا، علما وعملا، سلوكا وحالا؛ تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا .

وهكذا يمكننا القول: إن جميع الواجبات التي تجب على المسلمين نحو القرآن الكريم، جميعها تخدم الواجب الأم، واجب المدارسة، والمطلوب أن تكون كذلك حتى يتحقق الغرض الأساس منها كلها ومن التدارس خاصة، وهو استخلاص الهدى المنهاجي العام والخاص، إذ عودة الأمة إلى مرتبة الخيرية التي أخرجها الله من أجلها تتوقف على الرشد المنهجي في التعامل مع الوحي فهما وتنزيلا، فالغرض الأول من القرآن هو الهداية إلى هذا الأمر، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا}(الإسراء : 9).

بهذا الأمر وحده يمكن اختصار الطريق لعودة الأمة إلى العمران البشري الحضاري المادي والمعنوي، انطلاقا من الوحي ورجوعا إليه في كل قضايا الدين والحياة، ليستبين سبيل الهداية، وليستقيم ويرشد السير، فتتمكن الأمة بإذن الله تعالى وتوفيقه لذلك من أداء الرسالة المنوطة بها لإنقاذ نفسها وإنقاذ العالم معها من التيه والضياع، فتخرجه من ظلام جاهليته إلى نور الإسلام، ومن جور دياناته إلى عدل القرآن، ومن عبادة المادة والأوثان إلى عبادة خالق الأكوان، سبحانه وتعالى.

———

1-تحفة الأحوذي: 8/215.

2- لسان العرب لابن منظور، مادة “درس”.

3-  البخاري في بدء الوحي حديث رقم :5 .

4-  مسلم في الذكر والدعاء: 4867.

5- أنظر كتاب مجالس القرآن للدكتور فريد الأنصاري : 36-37.

6- في قراءة أخرى :” تَعْلَمون” .

د.محمد الأنصاري


اترك رداً على زكية برواين إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “الـمدارسة القرآنية

  • زكية برواين

    (( السعيد من أكرمه الله بالاشتغال بالقرآن الكريم، تلاوة وتزكية وتعلما وتعلما …)))……فريد الانصاري رحمه الله
    بارك الله فيكم وفي كل الجهود المبذولة..