لقد عاش الشاعر محمد الحلوي اثنتين وثمانين سنة، قضاها كلها في الدراسة، وفي العطاء، وفي الوطنية، وفي الدفاع، وفي الإبداع، في الدراسة بجامعة القرويين التي نهل من فيضها المتدفق، وأوفت له وأوفى لها، ورعته بحنانها وبرت به فبر بها، ورصع مجدها في جميل قصائده وأروعها، وفي العطاء في ميدان التعليم، بين مدينتي فاس وتطوان، كأستاذ بارع موفق بامتياز في اللغة العربية، وكمفتش ناجح محنك متمكن بين عدد من المدن بالشمال كتطوان، وأصيلة والعرائش والقصر الكبير، وتشهد له كفاءته أنه كان نعم الموجه، ونعم المرشد، ونعم المؤطر، وفي الوطنية لأنه اندمج في الحركة الوطنية، وشارك في إذكاء شرارتها ووطيسها، وجاهر بذلك، ونظم قصائد كل واحدة منها كانت جذوة متقدة بالوطنية، ومتأججة بالحماس، ولكنها ضاعت أو بأفصح معنى ضيعت، لأنها كانت إدانة صريحة للإستعمار، فلم تصلإلينا، وكانت قوية في معانيها، وفي مضامينها وكان الشاعر صادقا فيها لأن منها ما كان يتردد على ألسن الوطنيين فيثير النخوة والإباء والإصرار، وبسببها سجن سنة : 1944، كما سجن قبله سنة 1937 عدد من الشعراء الوطنيين المغاربة، ومنهم : عبد القادر حسن، ومحمد الحبيب، وعلال الفاسي، ومحمد المختار السوسي، والطيب العلوي، ومحمد القري وغيرهم، وقد سجن الشاعر محمد الحلوي في سجن مرموشة، وهو معتقل جعله الإستعمار الفرنسي في الأطلس خاصا لاعتقال الوطنيين وتعذيبهم والتنكيل بهم، وقد عبر الشاعر عن ذلك أصدق تعبير فقال :
كأنا وأطراف الحصي تنالنا
حجيج مطيف يعبر البيت مسرعا
فما زادنا التعذيب إلا صلابة
ولازادنا الإذلال إلا ترفعا
أسارى ولكنا جنود لأمة
إذا انتفضت دوي صداها وأفزعا
جباه بنيها ما انحنت لمعمر
ولم تتعود أن تذل وتركعا
> وفي الدفاع عن اللغة العربية، وحبها والتعلق بها، والحرص على سلامتها كتابة ونطقا، ولأجل أن تبقى معززة مكرمة، فقد بذل كل طاقاته، وسخر كل ماله من ثراء لغوي، وماله من مخزون ثقافي واطلاع شامل على خباياها وماتقوم عليه من قياس وسماع وأحكام وغريب وإحاطة بمصادرها ومعجماتها، ومالها من خاصيات يفتقد الإطلاع عليها الكثيرون منا، ولم يكن دفاعه عن اللغة منحصرا، وإنما كان متنوعا، فبحث فيما هو فصيح في عاميتنا فأصدر كتاب :(معجم الفصحى في العامية المغربية) وذلك سنة 1988، ومن كتاباته حول اللغة العربية قوله :(إن رحلة قصيرة في تاريخ الفكر العربي توضح عظمة المجهود الفكري والبشري الذي بذله علماء اللغة لتصبح لأمة العرب كغيرها من الشعوب لغة صافية وسليمة من كل رطانة وتهجين، وقد تعزز هذا المجهود برعاية الدولة وإفساح الخلفاء قصورهم لمناظرات اللغويين ومنافساتهم التي كانت إثراء للغة، وكتب الأدب واللغة حافلة بالكثير من هذه المواقف التي تسجل وفاء العرب للغتهم وحرصهم على سلامتها) (جريدة العلم العدد : 14325).
وفي الإبداع استقل القمة فكان شاعرا مقتدرا، بموهبته ولغته التي نجدها متدفقة مؤثرة ساحرة، وكان حقا قيتارة الشعب في أفراحه وأتراحه، وكان صوتا مدويا في المحافل، وسفيرا لنا خارج الوطن في أهم وأعظم الملتقيات ولدى استقبال أعظم الشخصيات، وخاصة في سنة 1958 حينما زار عميد الأدب العربي طه حسين المغرب في شهر يونيه، بدعوة من وزارة الخارجية بالمغرب، وبقي بالمغرب مدة عشرة أيام ألقى خلالها عدة محاضرات في كل من الرباط والدارالبيضاء ومراكش وفاس وتطوان، واستقبله صاحب الجلالة محمد الخامس ووشح صدره بوسام الكفاءة الفكرية، وكان الدكتور طه حسين خلال هذه الزيارة موضع حفاوة وتكريم وتعظيم من الشعب والحكومة معا، ومن رجال الفكر والأدب بالمغرب، فأقيمت له عدة حفلات تكريم من الشعب في كل مدينة حل بها، وكان من ذلك الحفل الذي أقامه العلماء بفاس، وهو حفل ألقى خلاله الشاعر محمد الحلوي قصيدة رائعة، أعجب بها الدكتور طه حسين إعجابا كبيرا قال منوها بها :(إنني لم أسمع مثل هذا الشعر في الشرق العربي، ولا بعد أن وطئت قدماي أرض الوطن) ومما ورد فيها :
حق على الشعر أن يهدي عرائسه
تحية لعميد الشعر والأدب
حق على الشعر أن يهدي قلائده
لصانع الدر والإبداع والعجب فبين
وافدنا والشعر من زمن
وشائج جمة موصولة النسب
هفا إليك كما يهفو الفراش إلى
خميلة الزهر، يروي الشوق عن كثب
هفا إلى حضنك الدافي لينعشه
مثل اليتيم الذي يهفو لحضن أب
وما لغيرك يهفو بعدما رفعت
له يداك مقاما في ذرى الشهب
مرحى بأكرم ضيف زار إخوته
فوثق الرحم القدسية السبب.
وكما استقبله بهذه القصيدة العصماء وهو يحل بأرض المغرب، ودعه حينما توفي بقصيدة غراء، ألقاها في المهرجان التأبيني الذي أقيم في مدينة تطوان لعميد الأدب العربي طه حسين، ومما جاء فيها :
أأرثيك أم أرثي النوادي في مصرا
وأبكيك أم أبكي الثقافة والفكرا
دهى الشرق، والأحداث فيه جسيمة
مصاب أليم، لم يجد معه صبرا
وماكان رزءا، للكنانة وحدها
ولا نجمها اللماع والكوثر….
ولكنه رزء العروبة كلها
ومأتمها البالي ومحنتها النكرا
وقد كان الشاعر الحلوي هادئ الطبع، يحب الوحدة أكثر، ويؤثر التأمل واستقراء ماحوله، ولكنه في شعره كان طائرا محلقا في أجواء الوجود، يعبر عن همومنا الإجتماعية، ومآسينا التي نقاسيها ونحاول أن نقاتلها لكنها تقتلنا ونحاول أن نصارعها لكنها تصارعنا، فلم يكن بأفكاره وتأملاته بعيدا عن الشعب ولم يكن منعزلا عنه، بل كان يهتز طربا كلما فرح الشعب، وكان يرسل شعره زفرات كلما حزن الشعب أو حلت به نكبة، أو نزل به مصاب. وأنت تقرأ شعره لابد أن تلمس رهافة الحس، وانسياب الشعور وهو أنغام كأنه يتغنى بها.
لقد عاش الشاعر الحلوي بيننا طائرا يشدو بأمجادنا ومنجزاتنا، وعاش مرآة تعكس هموم المجتمع في كثير من القصائد، وبدأ يقرض الشعر منذ نعومة أظفاره.
أصدر ديوان اصداء وأنغام سنة 1966، و(أنوال) لوحة شعرية سنة 1986، ومعجم الفصحى في العامية المغربية سنة 1988، وديوان شموع سنة 1989، ثم ديوان أوراق الخريف، وعاش فترة في السجن بسبب وطنيته، واعترضت طريقه أحداث مؤلمة.
وفي آخر حياته نكب حتى في أحق استحقاقاته، فكاد أن يخنق، وعبر عن ذلك جهارا، في موضوع نشره بجريدة (الأحداث المغربية) وقصيدة شعرية مؤثرة وداعية للأسى، نشرها أيضا في جريدة (الأحداث المغربية) ولا أدري هل كان لهذا أثر فعال جعل العناية تولى له، وجعل الرعاية تعطى لهذا الطائر العزيز الذي كان يتغنى وهو غريق في خضم الهموم والآلام وكأنه الطير الذي يرقص مذبوحا من الألم. وبصراحة فإن هذه العناية التي أتكلم عنها اليوم كان يجب أن تشمل الشاعر الحلوي قبل هذه الفترة بسنوات، وقبل أن يقدم لنا تلك الصورة التي تظهر الحالة المؤلمة التي وصل إليها، لأنه رجل عظيم وشاعر كبير، والدولة لابد أن تحمل واجبها الكامل في حق العظماء وفي حق الشعراء، حتى لايصلوا إلى المستوى الذي يعجل بحياتهم أويسبب لهم مضاعفات خطيرة تهدد صحتهم،.
فالشاعر الحلوي، قبل أن ينشر موضوعه المتعلق باستحقاقاته، والقصيدة المتعلقة بنفس الموضوع، سبق له أن نشر قصيدة يظهر فيها تشاؤمه، ويؤثر الموت، فبعث إليه الشاعر على الصقلي قصيدة يرجو منه أن يتفاءل، فأجابه الشاعر الحلوي قصيدة عنوانها : (قالوا تفاءل) من أبياتها :
قالوا تشاءمْت في دنيا مباهجُها
تصبي ألاَليْتَ دنياهم تُكذّبني
لو لم تكن قد أساءت مذ فتحت بها
عيني لقومي، بما ذاقوه من محن
لما تفجّر هذا القلب وارتفعت
آهاته
فارتوى من نبْعه شجني
فهذه الأبيات تبين ماوصل إليه الشاعر الحلوي، فلم يعد على الرغم من أنفه، واعتزازه بنفسه بقادر على أن يكتم مابصدره، فعبر عن ذلك في صدق وصراحة شاكيا متبرما مجروح القلب والمشاعر والفؤاد، ومع ذلك لم يجد ساعتها من يتذكر قول الرسول :(أنزلوا الناس منازلهم) وقوله :(إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)، وقد اتسعت هموم شاعر الحلوي حتى أصبح يرى أن الشعر يؤذيه، وأن الشعراء كل واحد منهم غريب في مسيرته، وقد أنكرته الدنيا، فقال من قصيدة له بعنوان (غربة الشعراء) :
مالي وللشعر يؤذيني بشكواه
ونحن فيما نعاني اليوم أشباه
أمسى كلانا غريبا في مسيرته
قد أنكرتْ وجْهَه المألوف دنياه
يسير في دربه المهجور مغتربا
في وحشية أظلمت منها حناياه.
وقد عبر لي الشاعر رحمه الله من خلال بعض المكاتبات التي كانت بيننا عن كثير من الهموم والمعاناة التي اعترضت طريقه، وذلك أنني حينما كنت أهيئ دراسة حول (أدب السجون) طلبت منه أن يوافيني بقصائده في الموضوع، فلم يستطع موافاتي بذلك، لأسباب صحية قاهرة كما قال في رسالة منه إلي وفي رسالة أخرى منه إلي عبر لي بصراحة عن محنة الشعر، فكتب إلي يقول : (فمِحنةُ الشِّعر العربيِّ اليوم في انعدام المخاطب والمتلقَي الذي فسد ذوقه، وتبلَّد إحساسه، واستهوته حداثَةٌ زائفة تخدع العيون ببريقها وبهرجتها، ثم قال:
ويعجبني قول الشاعر :
يموت ردئ الشعر من قبل أهله
وجيّدُه يبقى وإن مات قائله
ومع الرسالة المؤرخة ب 2002/11/8 بعث إلى ديوانه (شموع) و(أوراق الخريف) وتمنى ألا تفوتني قراءتهما.
فرحم الله الشاعر الحلوي، وأسكنه فسيح جناته ورزق ذويه الصبر والسلوان، وقبل الختام هذه أبيات مني إلى روحه :
من لي بشعره قد أتى أنغاما
تجلي الهموم وتطرد الآلاما
هو شاعر من بعده هـذي الدُّنى
في الصبح تبدو للعيان ظلاما
(ما طابَ لي أمسي ولا احْلَوْلى غَدِي)
إلا بشعره، فيه همت هياما
قد كان فينا شاعرا بقصائد
جاءت ورودا فتحت أكماما
ولى كأنه لم يكن يوْمابينن
فليسْقعْفو الله منه عظاما
ذ.محمد الطريبق
> عن الأحداث المغربية
بتصرف