أولويات البحث العلمي في الدراسات القرآنية


بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله و سلم على سيدنا محمد وآله، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، {ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيئ لنا من امرنا رشدا}.

أيها المهتمون بالدراسات الإسلامية ولاسيما القرآنية، نحمد الله تعالى أن يسر هذا اللقاء، وأن وفق هذه الجمعية وهذه الجهات المنظمة إلى هذا الموضوع المهم، فأن نشغل أساسا بالأولويات، هذا في حد ذاته رشد منهجي، حين نفكر في أن تكون هناك ندوة موضوعها الأولويات مطلقا، في البحث العلمي أو في غير البحث العلمي، حين نفكر هذا التفكير، نكون بإذن الله عز وجل داخلين ضمن الراشدين منهجيا.

أيها الحضور الكريم هذه الكلمة التي عبارة عن رؤوس أقلام، ستدور على النقط الآتية:

أولا:مقدمة في أهمية العمل بالأولويات

1- الدين كله نظام من الأولويات:

إذا نظرنا إلى الدين نظرة أفقية، وقد تم تنزله، بعد أن قال الله عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} إذا نظرنا إليه في هذه الصورة التامة الكاملة نجده عبارة عن نظام من الأولويات.

وإذا نظرنا إليه في الصورة المنهاجية، أي في كيفية إحلال الله عز وجل له في الأرض، في التجربة الأولى، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجده أيضا نظاما من الأولويات.

وإذا نظرنا إليه اليوم، ونحن نحاول تنزيله على الواقع أيضا نجده كذلك نظاما من الأولويات.

وحسبنا أن نشير إشارة فقط إلى حديث جبريل عليه السلام المشهور.

حين ذكر رسول الله  الإسلام أولا، ثم الإيمان ثانيا، ثم الإحسان ثالثا.

وحين ذكر ما بداخل الإسلام، فذكر الأركان الخمسة: أولا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج.

وحين ذكر ما ذكر أيضا في أمر الإيمان وأمر الإحسان،

كل ذلك على نظام الأولويات في العلاقة الكبيرة وفي العلاقات الصغيرة.

2- أن العمل بالأولويات رشد منهجي:

أي إن الشخص الذي يروض نفسه ويحملها على أن تتعود هذا الضرب من السلوك، وهو أن تسير وفق نظام الأولويات، فيه الثابت وفيه المتغير، إذا حمل الشخص نفسه على هذا ووطَّن نفسه عليه، فإنه يكون راشدا منهجيا.

3- شروط تحديد الأولويات:

ويمكن اختصارها في الفقه بأنواعه الثلاثة:

فقه الدين في كلياته ونظام أولوياته أفقيا وعموديا.

وفقه الواقع في القوى المكونة له، والبنية التي لهذه القوى التي تتدافع فيه، والتوجهات الكبرى التي تتجه إليها في تدافعها فيه، وهي تستشرف المستقبل.

فقه التنزيل في علاقته بالمنزَّل عليه، فردا أو جماعة أو حالا أو عملا أو أي شيء.

إذا فقه هذا أمكن تحديد الأولويات بدقة

وهذا الفقه بأنواعه الثلاثة شرط صحة في تحديد الأولويات.

ثانيا : تحديد مفاهيم ألفاظ العنوان

1- مفهوم “الأولويات”:  واضح أنه جمع لأولوية، والأولوية مصدر صناعي من الأوٍٍِلَى، وهو الذي يقدَّم على غيره لسبب من الأسباب. والأولويات هي تلك الأمور التي يجب أن تقدم على غيرها لخصائص فيها، بعد إمعان النظر فيها، انطلاقا من فقه الدين، وفقه الواقع، وفقه التنزيل.

2- مفهوم “البحث العلمي”:  البحث بحث؛ فيه كشف، وفيه جهد يبذل لكشف خبء، هذا الأصل في البحث. ووصف بالعلمية لأنه مقدمات وطرائق ونتائج كلها موزونة بميزان العلم فالبحث العلمي إذن هو ذلك الدرس المنهجي المؤسَّس على صحة المنطلقات وصحة المقدمات وصحة الطريقة بهدف الوصول إلى نتائج صحيحة.

إذا لم يكن هناك كشف في البحث عن خبء، فليس بحثا، وإذا لم يكن هناك كشف بطريقة علمية منهجية فليس بحثا علميا.

3- مفهوم “الدراسات القرآنية”: وهي كل الدراسات التي جعلت موضوعا لها القرآن الكريم وعلومه وما يتصل بذلك، فكل تلك الدراسات هي من الدراسات القرآنية.

ثالثا: أولوية المصطلح القرآني

والأولوية الأولى في نظري هي أولوية المصطلح القرآني:

1- ماذا أقصد بالمصطلح القرآني؟

إنه ذلك اللفظ الذي أكسبه استعماله في القرآن الكريم دلالة خاصة زائدة على الدلالة التي له في اللسان العربي، فصار بذلك له مفهوم خاص ضمن الرؤية القرآنية الشاملة، وصار بذلك التعبير عن ذلك المفهوم مصطلحا من المصطلحات القرآنية. وهذا الكلام مؤسس على:

أ- أن المصطلح ليس ضرورة أن يتفق عليه ناس، كما هو سائد في تعريف المصطلح. إذ يمكن أن يكون هناك مصطلح يأتي من جهة ما جاهز الاصطلاحية.

ب-  أنه في تاريخنا، وعبر نصوص كثيرة، وفي واقعنا وواقع غيرنا أيضا، يوجد هذا الاستعمال للمصطلح؛ إذ يوجد كثيرا مثل قولهم (هذه اللفظة في اصطلاح فلان).

ج- أن كل المذاهب والتيارات، عندنا وعند غيرنا، تأسست على نصوص بعينها، استعمل أصحابها فيها ألفاظا بعينها، صارت بعدُ، لاستعمالهم إياها بمفاهيم معينة، داخل الرؤية العامة التي قدموها للناس، صارت لها دلالات خاصة، أي مفاهيم خاصة، تبنّاها من جاء بعدُ واستعملها، فهي في الحقيقة لم تصر مصطلحات بسبب الاستعمال الذي طرأ بعدُ -وإن كان ذلك أكد اصطلاحيتها- ولكن صارت مصطلحات لذلك التخصيص المفهومي الذي كان لها من قبَل المُؤَسّس.

وهذا كثير، وفي كل التيارات والمذاهب… فأيّ كلام عندنا أو عند غيرنا هو مؤسس على هذا الكلام.

2- لماذا صار المصطلح القرآني أولوية؟

الأمر بسيط جدا؛ لأننا نحن الآن لا نفقه قرآننا، ولا نفقه ديننا، وهذا عليه أمثلة كثيرة لدى النخبة ولدى العامة، أو بتعبير القدماء لدى الخاصة والعامة؛ لقد بعدنا جدا عن كتاب ربنا، بعدنا على المستوى الفهمي، وبعدنا على المستوى العملي، وهو نتيجة لمستوى الفهم، ومن ثم بعدنا على مستوى الأحوال، نتيجة بعدنا على مستوى الأعمال.

فلذلك وجب تجديد الفهم، من أجل تجديد العمل، من أجل تحسين الحال بصفة عامة. نحن نحتاج إلى الدخول من باب الدخول (وإنما تؤتى البيوت من أبوابها) فقبل أن ندخل إلى الجملة القرآنية، يجب أن نفتح باب الألفاظ القرآنية، إذ الجملة مكونة من ألفاظ، وليس المقصود الآن الألفاظ التي تكون في النص العادي، ولكن المقصود الألفاظ المصطلحات التي تعبر عن مفاهيم، والتي بها يتم الدخول إلى المفهوم الكلي النسقي للقرآن الكريم،

هناك نسق مفهومي لهذا الدين، كامن في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تُبيّنه. هو كامن يحتاج إلى تجلية جزئية وكلية. هذا الأمر إذا لم يتم على وجهه الصحيح، لم تتضح الصورة على وجهها الصحيح.

وقد تعرض المصطلـح القرآني خلال أربعة عشر قرنا لاعتداءات متعددة، بأشكال مختلفة؛ صغَّرته، أو حرَّفته عن موضعه، أو عن مفهومه، أو جاءت ببدل عنه نهائيا وأهملته. وقد كان هذا موضوعا لعرض خاص، قدم في جامعة الإمارات العربية المتحدة تحت عنوان: “نحن والمصطلح القرآني”. وذلك لبيان ماذا فعلنا، عبر تاريخنا وفي واقعنا، بالمصطلح القرآني.

3- كيف ندرس المصطلح القرآني؟

الأمر بسيط أيضا. لأنه مسطَّر في هذا الكتيب الصغير “القرآن الكريم والدراسة المصطلحية” وخلاصته بالإشارة أن الدراسة المصطلحية مدارها على خمسة أركان: الإحصاء أولا للفظ، ثم بعد ذلك الدراسة المعجمية له، ثم بعد ذلك الدراسة النصية له، ثم بعد ذلك الدراسة المفهومية له، ثم بعد ذلك عرضه على نمط خاص ببيان تعريفه، وبيان صفاته بأنواعها، وبيان علاقاته بأنواعها، وبيان ضمائمه بأنواعها، وبيان مشتقاته بأنواعها. وأخيرا بالدخول إلى عالم قضاياه بأبعادها.

هذا الأمر في حد ذاته، يحتاج إلى كلام طويل عريض، ويكفي أن أقول: إن معهد الدراسات المصطلحية قد خصص لكل ركن من تلك الأركان دورة تدريبية كاملة، فيها أشياء متعددة وأمور كثيرة.

رابعا: أولوية الهدى المنهاجي

الأولوية الثانية هي أولوية الهدى المنهاجي.

1- ماذا أقصد بالهدى المنهاجي؟

أقصد بالتحديد ما جعله الله عز وجل طلبا في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} وهو الطلب الوحيد الإجباري الذي للمؤمن في حياته كلها، في جميع صلواته؛ ذلك بأن الفاتحة، كما تعلمون، مؤسسة على هذا الدعاء؛ ما قبلَ {اهدنا} مؤَسّس له، وما بعد {اهدنا} مفَصّل له، وليس في الفاتحة دعاء إلا {اهدنا الصراط المستقيم} ما قبلها يؤسس لأدب الدعاء، وما بعدها يفصل في هذا الدعاء. وليس في الكتاب بعدُ إلا “الهدى”  قال تعالى: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} وقال أيضا {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس بينات من الهدى والفرقان} وقال جل جلاله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}… إلى غير ذلك من الآيات.

فلذلك أقول: إني أقصد بالهدى المنهاجي تلك الطريقة المثلى للتفكير والتعبير والتدبير الفردي والجماعي في مختلف الأحوال، هذا ما أقصد بالهدى المنهاجي.

2- لماذا الهدى المنهاجي؟

لأننا بصدد الاستئناف الآن، والعودة من جديد، إن شاء الله تعالى إلى التاريخ، عائدون، عائدون … سنعود من جديد، وستعود الأمة من جديد، “بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ” رواه مسلم. هذه العودة لابد من تسريعها للتعجيل بتخليص العالم، ولا يمكن تسريعها إلا بالاهتداء في الأمر كله للتي هي أقوم. ولذلك لابد من اكتشاف واستخلاص واستخراج الهدى المنهاجي من باطن الوحي ليستبين السبيل، وليستقيم ويرشد السير.

3- كيف نستنبط الهدى المنهاجي؟

لا سبيل إلى ذلك بغير الدرس والتدارس للقرآن الكريم:

أما الدرس فهو الصورة الفردية النافعة لصحبة القرآن، ولن تكون ربانيا على الحقيقة بغير الدرس للقرآن {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} ولكن الدرس وحده لا يفضي إلى كل النتائج المرجوة من صحبة القرآن.

وأما التدارس فهو الصورة الجماعية المثلى لصحبة القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح المشهور الذي تعرفون >وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده<(رواه مسلم).

هذا الترقي في مقامات الفهم ومقامات العلم بالكتاب يبدئ بالتلاوة والتدارس فتنزل السكينة، وإذا نزلت السكينة إزداد الإيمان {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المومنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} ثم يكون غشيان الرحمة، وإذا غشيت الرحمة أذهبت الاختلاف وجاءت بالائتلاف {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} ثم يكون حفوف الملائكة، وإذا ترقى الأمر إلى درجة حفوف الملائكة وإحاطتهم بالمتدارسين أدت المصاحبة للملائكة إلى التخلق بأخلاق الملائكة “والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”رواه أبوداود والترمذي. والدرجة الرابعة: ذكر الله {ولذكر الله أكبر}؛ أن يتأهل العبد نتيجة عروجه في هذه المقامات إلى حال أن يُذكَر في الملإ الأعلى عند الله تعالى، كما ذكر الأنبياء قبل عليهم الصلاة والسلام.

هذا التدارس إذن هو أسرع طريق لاستخلاص هذا الهدى واستنباطه، وهو الشرط الذي يشير إلى الجهد الجماعي المشترك الذي لا تحصل تلك النتائج كلها إلا بوجوده.

خامسا: أولوية الإعجاز العلمي

 

الأولوية الثالثة هي أولوية الإعجاز العلمي.

1- ماذا أقصد بالإعجاز العلمي؟

أقصد بالإعجاز العلمي ما يكتشفه بعض العلماء في القرآن الكريم مما يستحيل أن يصدر عن غير الله إبان نزوله القرآن الكريم، وأقول “اكتشاف” لأن أمر الإعجاز ليس أمرا استنباطيا ولكنه أمر اكتشافي، إذ هو موجود في الكتاب.

فأي صاحب تخصص علمي اكتشف شيئا، أو أمرا في كتاب الله عز وجل، تبيّن له بحكم تخصصه أن هذا الأمر الذي تحدث عنه الكتاب إبان نزوله يستحيل أن يكون من بشر، فقد اكتشف إعجازا علميا؛ أي أمرا يُعجزُ غَيرَ الله أن يصدر منه.

ولا أقصد بالعلم هنا المفهوم المعاصر المقصور على مجال العلوم المادية كما هو شائع اليوم. كلا ثم كلا، إنما هو العلم بمفهومه الواسع الذي يبتدئ من الوحي أصلا {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} ثم العلوم الشرعية بكاملها المستنبطة من الوحي، ثم العلوم الإنسانية بصفة عامة، ثم العلوم المادية.

فصاحب العلوم الشرعية يكتشف الإعجاز التشريعي إذا تضلّع في مجاله وفي تخصصه، وغيره يكتشف غير ذلك. وكذلك صاحب العلوم الإنسانية وصاحب العلوم المادية.

فالإعجاز العلمي الذي أقصده عام، والعلمية فيه عامة، وليس كما يستعمل اليوم في الإعلام وغير الإعلام.

2- لماذا صار الإعجاز العلمي أولوية؟

ذلك لرد الناس إلى الله تعالى بأسرع طريق؛ لأنهم حين يتبين لهم بوضوح أن هذا الأمر أو ذاك مستحيل أن يقوله محمد صلى الله عليه وسلم ولا العرب. بل لا هو، ولا هم، ولا غيرهم من الأمم، إذاك يقتنعون أن هذا القرآن ليس من عند غير الله.

فمثلا حين وقف بعض علماء الأجنة عند قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} تعجب من إشارة القرآن الكريم إلى هذه المرحلة العظمية التي يمر بها الجنين فلا يبقى فيه إلا النسيج العظمي في الصورة الغضروفية أولا، ثم بعد ذلك تكسى تلك العظام بأنسجة لحمية، ثم ينفخ في الجنين بعدُ الروح، فيصير خلقا آخر.

وبما أن علم تشريح الأجنة بكامله لم يظهر إلا منذ نحو قرن تقريبا، ولم يكتشف هذه الحقيقة إلا حديثا، فمن أخبر محمدا أومن أخبر غيره من بقية الأمم بشيء من هذا.؟

هذا الاكتشاف هو اكتشاف لإعجاز علمي في القرآن الكريم، يثبت أن هذا القرآن ليس إلا من عند الله تعالى.

3- كيف نكتشف الإعجاز العلمي؟

لابد أولا من التفوق في التخصص؛ إذ القوة في التخصص، أي تخصص، في أي علم من العلوم تفضي بصاحبها إلى اكتشاف المجهول.

ثم أيضا التفوق في تذوق القرآن بما يستلزم ذلك من إتقان للغة العربية، ومن علوم الآلة بصفة عامة. ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ثم بعد ذلك وقبل ذلك اليقين؛ لأنه إذا حضر التفوق في التخصص، والتفوق في التذوق، ولم يحضر اليقين، أي الإيمان بما في هذا القرآن إلى درجة اليقين، فإنه لا يحصل الاهتداء {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يومنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولائك ينادون من مكان بعيد}.

سادسا: أولوية إعداد النصوص

الأولوية الرابعة هي أولوية إعداد النصوص

1- ما ذا أقصد بإعداد النصوص؟

المقصود بإعداد النصوص في هذه الإشارات، هو تصييرها صالحة للاعتماد العلمي. ولا يكون ذلك إلا بالتوثيق، والتحقيق، والتكشيف.

2- لماذا يجب إعداد النصوص؟

لماذا لا بد من إعداد النصوص: نصوص الدراسات القرآنية؟ ذلك لتحقيق شرط العلمية في المادة الخام، ولاستكمال الشخصية النصية للتخصص؛ فتحضر المادة كلها لتعم الأحكام، وتحضر موثقة محققة لتصحّ الأحكام، وتحضر مكشفة ليسهل جمع ما تفرق من المادة الخام.

3- كيف تعد النصوص للدراسة؟

المراحل ثلاث :

مرحلة توثيق النسبة أي توثيق نسبة النص إلى صاحبه.

ثم مرحلة توثيق المتن وهو ما يسمى بالتحقيق عادة؛ لأنا نريد أن نستوثق من أن هذا النص لفلان. وإلا فجميع النتائج ستفسد؛ سنحكم على عصرما، حكما غير صحيح، أوعلى شخصية ما أو اتجاه أو تيار… ثم  ينبغي أن نستوثق من أن هذا النص هو أقرب شيء للنص الذي خرج من قلم صاحبه إن لم يكن يطابقه.

ثم في مرحلة ثالثة ينبغي أن يخضع هذا النص لعملية تكشيف في مستوياتها الأربعة:

تكشيف أسماء الأعيان، وتكشيف الموضوعات، وتكشيف النقول، وتكشيف المصطلحات. وفي ذلك فوائد يطول الكلام فيها.

سابعا: أولوية تكميل أصول البيان

الأولوية الخامسة هي أولوية تكميل أوصول البيان

1- ما المقصود بأصول البيان؟

أقصد بأصول البيان ما تعرفونه من أصول التفسير، وأزعم أن لفظة البيان هي اللفظة الأنسب للمراد {فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إنا علينا بيانه} وهي اللفظة التي ترددت في القرآن كثيرا. أما التفسير فلم يرد إلا مرة واحدة، وفي سياق بعينه لا صلة له بهذا الموضوع.

2- لماذا أصول البيان؟

السبب هو أن هذا الأمر لمّا يُحسَم فيه، ولمّا يُجمع حتى الساعة وينظَّم في صورة نظرية متكاملة لفهم القرآن حق الفهم. لقد خُدم الحديث؛ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدم النحو، وخدمت البلاغة حتى قالوا إنها علوم نضجت واحترقت. لكن علم بيان القرآن لم ينضج ولم يحترق، وما زال الباب مفتوحا على مصراعيه. وإني بحمد الله تعالى لعلى علم بما هو كائن.

فلماذا نكمل أصول البيان إذن، لأجل نقصانها في الواقع، ولضرورتها للاستنباط الصحيح.

3- كيف نكمل أصول البيان؟

لا بد أن نجمع المتفرق، وهو في مقدمات أصول التفسير، وفي بواطن كتب التفسير، وفي كتب علوم القرآن بأشكالها وألوانها، وفي كتب الأصول، وفي كتب اللغة، وفي غير ذلك. هو مفرق في عدد من العلوم. والقواعد الأصولية كثير منها أصول تفسيرية أي أصول بيانية.

ثم بعد ذلك لابد أن نُخَلّص الملتبس ولابد أن نضيف الناقص.

وعلى سبيل المثال: فقد بقي جهد مدرستين خارج الإطار: جهد مدرسة المقاصد، وجهد المدرسة الاجتماعية المعاصرة. فجهودهما مشتتة لمّا تجمع لتلتحق بالضوابط العامة.

ثم من بعد ذلك لابد من عمليات للتمحيص، والتقعيد، والتصنيف قبل أن يصاغ كل الناتج في صورة نظرية شاملة كاملة.

ثامنا: خاتمة فيما قبل الأولويات

أولا تكوين الأطر العلمية القوية الأمينة، المؤهلة:

وهذا أمر فيه كلام طويل عريض؛ لا بد أن نحرص على أن ندفع بالمعادن الممتازة إلى مجال العلوم الشرعية، لأن “التصفية” بلغة اليوم، تتم في التاسعة، أي في نهاية مرحلة الإعدادي، هناك “يصفى” العلم الشرعي “التصفية الجسدية”. أي إن خيرة العقول يُذهَبُ بها إلى اختصاص الرياضيات، أويذهب بها إلى اختصاص العلوم التجريبية، وما يبقى يعطى للعلوم الأدبية وما يلحق بها من علوم شرعية على قاعدة {ويجعلون لله ما يكرهون}.

فتكوين الأطر القوية الأمينة إذن لابد منه، وهو يبدأ باختيار المعادن الكريمة وتأهيلها التأهيل العالي. لابد من تحررنا من ضغط الخبز ومن ضغط غير الخبز، لا بد من تحررنا من كل الضغوط لنستطيع أن نأتي بما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

ثانيا اعتماد العلمية والمنهجية والتكاملية في البحث:

العلمية بشروطها التي أشير إليها قبل، بأن نلتزم بصحة المقدمات، وصحة الطريقة، وصحة النتائج. وتبعا لذلك، نهيئ ما يلزم لذلك.

والمنهجية تتجلى في أنك تسير بطريقة معينة انطلاقا من الجزئيات لتركيب الكليات، وترسم الطريق عبر مراحل يفضي بعضها إلى بعض.

والتكاملية تعني التنسيق في العمل والتكامل فيه؛ فإذا اشتغل هذا مثلا بالأذن، فينبغي أن يشتغل الآخر بالعين، والآخر باليد، والآخر بالرجل، وهكذا. نحن بحاجة إلى التكامل في البحث. وإن هذه النقطة فيها نقص كبير، وفيها كوارث، ليس بأخطرها التكرار الكثير في البحوث الذي يقع حتى في الكلية الواحدة، أو الشعبة الواحدة

وأخيرا استصحاب الرؤية الشاملة في المسألة العلمية بمعنى أن لا ننظر إلى موضوعنا مجردا عن غيره، أو إلى تخصصنا مجردا عن غيره، أو إلى المكان الذي نبحث فيه مجردا عن غيره وهكذا…..وهكذا….وبالله  التوفيق.

أ.د. الشاهد البوشيخي

————

(ü) عرض ألقي في ندوة: أولويات البحث العلمي في الدراسات الإسلامية التي نظمتها جمعية خريجي الدراسات الإسلامية العليا بتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بكلية الآداب -الرباط. بتاريخ 21/9/2004.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>