الفطرة والبعد الإنساني للإسلام


يراد بالبعد الإنساني للمذهبية الإسلامية ما يترجم عمومها زمانا ومكانا وحالا وإنسانا، ويجسد صلاحها وإصلاحها للبشر اعتقادا وتفكيرا، وسلوكا وعملا، وإنما قوام هذا العموم والدوام والإصلاح ملاءمة الفطرة، إذ هي “الأصل الأصيل الجامع لحقيقة دين الاسلام”.

والشاهد في ذلك كليات منها قوله تعالى : {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

وفي الحديث “يولد الولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرناه أو يمجسانه”. كل هذا يفيد أن الفطرة خاصة هذا الدين، وهي سر تميزه عن باقي الشرائع حيث العموم والدوام قال ابن عاشور”وقد بان أن وصف الفطرة للدين مما اختص به الاسلام فلم يوصف دين من الأديان السالفة بأنه الفطرة، كما لم يوصف أحدها بأنه عام ولا بأنه دائم… فلا جرم علمنا أن لهذه الأوصاف الثلاثة العموم والدوام والفطرة تناسبا وتلازما”.

وينصرف معنى الفطرة في الأصل إلى الجبلة والطلبيعة الأولى التي عليها خلق الإنسان وهيأته ظاهرا أو باطنا “أي جسدا أو عقلا فسير الإنسان على رجليه فطرة جسدية، ومحاولة مشيه على اليدين خلاف الفطرة…واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه المسمى هذا الاستنتاج في علم الجدل فساد الوضع خلاف الفطرة العقلية…

وتطلق لفظة الفطرة في الاصطلاح الفلسفي على “(الاستعداد) لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل، وهي مرادفة للعقل عند ديكارت” فتكون بذلك من الكيفيات النفسانية التي تؤول إلى مقولة الانفعال، ويستطيع الإنسان بموجبها “تمييز أحوال الوهم حقه وباطله” وهي بهذا المعنى ـ عند ابن سينا في النجاةـ خاصة بفطرة العقل إذ هي صادقة دون فطرة الذهن بالجملة والتي قد تكون كاذبة قال : “وليس كل ما توجبه فطرة إنسان بصادق، إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة”… فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إما شهادة الكل مثل إن العدل جميل، وإما شهادة الأكثر، وإما شهادة العلماء، أو الأفاضل منهم”.

وأما في اصطلاح أهل التفسير فيتردد لفظ الفطرة بين معنيين كلاهما ورد عقب قوله تعالى : {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها…}

الأول أن المراد بها خصوص الجزء الاعتقادي، بحيث تقع وصفا له، وهو مذهب فخر الدين الرازي وابن كثير والبيضاوي وهو مبني على “تحكيم سياق الكلام السابق لأن الآيات قبلها كانت في ذم الشرك والرد على المشركين ابتداء من قوله تعالى {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون}… وجعلوا معنى الفاء في قوله “فأقم” هو “التفريع”، كما أنه مبني أيضا على أن التعريف في قوله تعالى “للدين” تعريف الجنس فيكون كليا من قبيل النوع… ويكون إطلاقه هنا من باب إطلاق إسم الكلي على بعض أفراده كما أطلق ذلك على عدد (من الفروع) في حديث جبريل في السؤال عن الإيمان والإحسان والساعة وأمارتها إذ قال رسول الله (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) والثاني أن المراد بها مجموع شريعة الإسلام، وهو مذهب الزمخشري وابن عطية والبغوي. قال ابن عطية : “والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيأة التي في نفس الانسان التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه” وقال في الكشاف “والمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الاسلام. ومستند هذا المذهب أن التعريف في قوله “للدين” للعهد والفاء في قوله “فأقم” للفصيحة، إذ هي مؤذنة بشرط مقدر…

والظاهر أن هذا المذهب راجح على الأول لما فيه من سعة معنى الفطرة المناسب لعموم الإسلام وشموليتهولذلك عاب الشيخ ابن عاشور على المذهب الأول مارامه من التضييق قال “واعلم أن في هذه الطريقة تضييقا لمعاني القرآن، فأخذوا الأمثلة والجزئيات وقضايا أسباب النزول وجعلوها كل المراد من الآي…” في حين انتصر للمذهب الثاني مبينا أن حديث “يولد على الفطرة” يشهد له أكثر مما يشهد للمذهب الأول قال “وأرى هذا التفسير هو الذي يتعين التعويل عليه، وأنه يقتضي أن يكون التعريف في قوله تعالى “للدين” تعريف العهد، وهو أظهر هنا وأبعد عن التكلف… وتكون الفاء للفصيحة وهي الظاهرة هنا كما هو شأنها في كل كلام يقصد به إثبات مطلوب بعد التمهيد له بذكر مقدماته ودلائله فيقع ما بعد الفاء موقع النتيجة من القياس، ولذلك تكون مؤذنة بشرط مقدر… وينتظم معنى الآية هكذا : إذا علمت ما بيناه من الدلائل على إبطال الشرك فوجه نفسك للاسلام الحنيف الفطرة، فذلك هو الدين القيم الصحيح دون غيره إذ المقصود من الكلام بيان فضيلة دين الاسلام على سائر الأديان بله دين الجاهلية، ويكون الكلام جاريا على عادة بلاغة القرآن من تذييل الأغراض الجزئية بالدلائل الكلية المبرهنة على الأغراض السابقة… ويعضد هذا التفسير الحديث الصحيح أن رسول الله قال : “يولد الولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” فتراه قابل الفطرة بالتهويد والتنصير والتمجيس دون الإشراك. واليهودية دين التوحيد والنصرانية يقول كثير من طوائفها بالتوحيد على اختلاف في بيانه وتقريره، فلو كان المراد من الفطرة خصوص التوحيد لكان الأولى أن تقابل بالمجوسية وبشرك الجاهلية”.

عبد المجيد بلبصير

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>