الافتتاحية – السَّكن الأُسري نعمة فوق التقنين المصادم للفطرة


قال الله تعالى: {ومِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لكُم مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْواَجاً لتَسْكُنوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مودّةً ورَحْمةً إن في ذَلِكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم).

إن من أكبر الآيات الدالة على وجود الله المستحق للعبادة والطاعة والخضوع خَلْقُه للإنسان الرجُل أوَّلاً، ثم خَلْقُهُ للمرأة من نفس الرجل ليجد فيها الرجلُ كماله وسكينته في هذه الحياة.

فتكون الآية واضحة الدلالة على أن خلْق المرأة للرجل من نفسه هو لحكمة كبرى منصوص عليها صراحة هي: توفير السَّكن والاطمئنان للرجل، وفي توفير السَّكن للرجل أساسا توفيرُ السكن للمرأة بالتبع

والتعبير القرآني {خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتَسْكُنوا إليها} يُلْهِم عدة معان هي :

1- أن الرجل خُلق أولا، وللمقدَّم في الخَلْق فضل السبق والاستقلال

2- أن المرأة خُلقت من بعده ،ومن نَفْسه ،ولَهُ، فلها فضل التبعيَّة والدوران في فلكه، والارتباط بشخصه لتكمُل به، عندما تُكَمِّل نَقْصَه وتوفِّرُ سكَنَه. وبهذا الالتحام التكامُلي ينشأ التوادُّ والتراحم الذي يفيض مجتمعات وشعوبا وأمما متعاونة على البر والتقوى.

3- تقَدُّمه في الخلق يُشعر بتقدّمه في المسؤولية.

4- والتقدُّم في المسؤولية يُشعر بالتقدم في القيادة لخَلية الأسرة. ولهذا كان طبيعيا أن يكون الرجل هو أولَ من يخْتَار التي يُؤَمِّل فيها أن تَكون سَكَنَه، وهو الذي يَخْطُبها، وهو الذي يُغْريها ويستميلها ويُرْضيها بالكثير من الهدايا والصَّدُقات، وهو الذي يتحمَّل جميع التبِعات شرعا وعرفا وقانونا في أغلب البلاد السائرة على المنهج الفطري السليم.

5- المقدّم في القيادة غيرُ منازع في حق الطاعة- المتعارف عليها- فليس في ذهن الباحث عن الشريك، أنه يبحث عن مصارع مقاتل، فلا سكَن في المصارعة والمقاتلة، وليس في ذهن المرأة الراضية بالارتباط أنها ذاهبة لحلبة المصارعة والملاكمة والمقاتلة، وإلا فلا سكَن تَحْمِله، ولا سكن تَنْشُده.

والله عز وجل الذي خلق الرجل وخلق المرأة لهُ لحِكْمة توفير السّكن له هو الذي قال {الرّجال قوَّامُون على النساء بمَا فضَّل اللهُ بَعْضَهُم على بعض وبما أَنْفَقُوا من أموالهم} (النساء) فوضَعَ الإشرافَ على مؤسسة الأسرة في يد الرجل، وبذلك كان الوضعُ فطريا وحكيمًا لا هضم فيه لحق فطري، ولا تطاول فيه على كرامة فطرة سليمة .

وليس تأسيس الأسرة على هذا الوضْع فيه سَلْبٌ للمسؤوليات وامتهانٌ للكرامات، وانتقاصٌ للأدوار والواجبات، كلا، ولكن التأسيس على هذا الشكل فيه حكمة ترتيب،وحسن توزيع وتنظيم يوضح هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع ومسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والولد راع…، والخادِمُ راع…” وهكذا نجد الحديث لا يُعْفي أحدا من أفراد الأسرة من المسؤولية، ولكنه لا يتركُهَا بدون تحديد وتنظيم وترتيب، أي أن الأسرة ستتعرض للأخطار إذا اختل التوازن والترتيب، فليست قيادة الأب للأسرة كقيادة الولد- في حال اعتلائه سُلَّم القيادة- ولا قيادةُ الأم كقيادة البنت،فما بالك بقيادة الخادم. فكم من دُولٍ نخرَّبت بسبب سيطرة الوزراء على الملوك، وبسبب سيطرة قواد الجيش على دواليب السياسة.

وإذا كان بعضُ النساء أكثرْنَ من النفخ في بعض الأفكار المعوجَّة لإسقاط الشعوب الإسلامية في حظيرة التبعية الفكرية، والمرجعية البشرية الناقصة، حيث يدَّعين أن المرأة في الإسلام مسلوبة الإرادة لا شخصية لها ولا مسؤولية ولا دوْرَ لها في الأسرة، فهذا كذب على الدين، وعلى التاريخ، وعلى الواقع، وعلى الرجل.

فالمرأة في الدين والواقع هي سيدةُ البيت، وقُطب رحاه، وهي زهرة الكون وعَبَق شداه، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة الصالحة هي خيْر متاع الدنيا، وأن الجنة تحت أقدام الأمهات، وأن المرأة راعية ومسؤولة عن رعيتها؟ فالأسرة أساسا موضوعة تحت رعاية الزوجين، وتاريخا وواقعا وعمليا تحت رعاية الزوجين. فلا جديد في هذا إلا التطبيل والتزمير وتملق الجهات النافذة للاسترزاق بقضايا المرأة.

أما إلغاء الطاعة مقابل الإنفاق، فهذا مَطْلَبٌ لا يمكن تحقيقه إلا في الخيال الكاذب، وفي دُنيا أخرى وحياة أُخرى غير الحياة البشرية، إذ الحياة الزوجية المتعارَف عليها بين الذكور والإناث لا بد أن تقوم على أساس الطلب والطاعة، والحق والواجب.والإيجاب والقبول، والرغبة والاستجابة، ومقابلة لذَّة الأمر بحلاوة الطاعة. إذ الحياة لا بد أن تسير هكذا حتى في نطاق الصداقة والمخادنة، والمخالطة والمشاركة، هذه هي سنة الحياة. وإلاَّ لا سَكِينَة في الحياة الزوجية، ولا تكامل في المعاشرة الأسرية، إذ كيف تُرفرف السكينة على أسرة لا ينكر الزوج فيها ذاته في سيبل مصلحة الزوجة، ولا تنكر الزوجة فيها ذاتها في سبيل إسعاد الزوج وتلبية رغباته التي لا قوام للحياة الزوجية بدونها، وهي المشار إليها في الأسلوب القرآني الرائع { هُنّ لِبَاسٌ لكُم وأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ} (البقرة).

فهل تستطيع القوانين المادية توفير شروط السكن المعنوية والإيمانية؟؟

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>