كتاب في حلقات : يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟! قراءة تفسيرة لنبوءات التوراة عن نهاية دولة إسرائيل الحلقة 9 : عودة اليهود والفجوة الكبرى


إن قارئ أسفار التوراة -لاسيما أنبياء عهد السبي وما بعده- يجد بوضوح تام أنها تشتمل على نبوءات عن اليهود في آخر الزمان، وأن لهم بقية يكون لها اجتماع ومملكة أخرى في فلسطين، وأن الله سوف يسلط عليهم غضبه بواسطة أمة قديرة تجتمع عليهم من أطراف الأرض.

ولكن قارئ الشروح والتفاسير سوف يحار ويتيه لكثرة الاختلاف والتناقض بينها في تأويل هذه النبوءات وتنـزيلها على الواقع، وهو ما يتـزايد مع الزمن بظهور فرق جديدة وآراء جديدة.

لكننا نستطيع مساعدة القارئ بالقول إن جملة هذه الآراء تنحو طريقتين :

1- أن تكون تلك النبوءات قد حدثت فعلاً، وهو رأي قديم فاليهود في كل عصر ينـزلون تلك النبوءات عليه ترقباً للخلاص، وهذا يشبه الدول التي قامت في التاريخ الإسلامي باسم المهدي المنتظر، كدولة بني عبيد ودولة الموحدين وغيرها، فآمن بها أناس -ولا يزال لها أتباع- وكما في إنجيل “مَتَّى” الذي يجعل واضعه  النبوءات في المجيء الأول للمسيح. وبهذا تأثر الكاثوليك فمال أكثرهم إلى هذا الرأي.

وهذا الرأي هو الأساس الذي بنى عليه رواد مدرسة النقد التاريخي للكتاب المقدس في عصر التنوير عملهم، حتى تطرف بعضهم فـزعموا أن كلام الأنبياء إنما هو تاريخ للماضي لا حديث عن المستقبل، فهم إذن مجرد أخباريين نقلة وليسوا أنبياء !!

وهذا الاتجاه مناقض لتلك النبوءات نصاً وروحاً، إذ كيف يقول الله لنبي ((قم وتنبأ على إسرائيل)) أو ((على مصر)) أو ((على أدوم))… ويكون ذلك قد وقع فعلاً من قبل ؟.

وما من دليل على تأخر عصر الأنبياء عن الأحداث التي ذكروا إلا مجرد التخمين بل المجازفة.

ولهذا لا نجد مشقة في رد هذا الرأي من أصله، لاسيما وقد أصبح التاريخ مكشوفاً لنا أكثر من ذي قبل بكثير، ولم يعد لمنهج الرد بالجملة من مبرر.

2- أن هذه النبوءات على ظاهرها حديث عن المستقبل، وهو الاحتمال المنطقي الصحيح، لاسيما وأن تنـزيلها على المجيء الأول للمسيح غير معقول عقلاً وواقعاً فهي تتحدث عن دولة وممالك وحروب .. مما لم يكن قط في عصر المسيح، ولهذا فإن أكثر الشراح من اليهود والنصارى وخاصة في القرون الأخيرة ينـزلون مثل هذه النبوءات على العهد الخلاصي -أو “المشيحي” (بالشين) كما يسمونه- أي أحداث آخر الزمان بين يدي الدينونة الكبرى أو معها، والعهد الخلاصي منوط عند النصارى بالمجيء الثاني للمسيح. في حين يعتقد اليهود أنه منوط بالملك من نسل داود المسمى عندهم “ملك السلام”.

ومعنى ذلك أن كلا الطرفين هنا بل كلا الطريقين في دراسة النبوءات يتفقان على أنه منذ عصر المسيح \ أو بعده بقليل، لا يوجد شيء من أحداث التاريخ تنطبق عليه النبوءات، وسيظل الأمر كذلك إلى أحداث الساعة الكبرى. وهذا بلا شك افتراض جائر لا يسوغه إلا سبب عظيم جداً !!.

إذن فلا بد أن هناك أمراً ما يتعمد هؤلاء تحاشيه بالهرب من إنـزال هذه النبوءات على المرحلة التاريخية الفاصلة بينهم وبين المسيح . فما هو هذا الأمر ؟ ولماذا هذا الإصرار على ترك تلك الفجوة مفتوحة لتـزداد اتساعاً بمرور الزمن، فربما بلغت الآلاف من السنين والعلم عند الله تعالى وحده ؟.

لا شك أن هذا لم يأت صدفة، ولكنهم وجدوا أن أعظم حدث تاريخي في هذه المرحلة هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وظهور دينه على الأديان كلها، ولم يكن أمامهم سوى أحد احتمالين :-

1- إما أن يؤمنوا بما جاء عنه من البشارات التي تضمنتها نبوءات الأنبياء، أو على الأقل بما ينطبق على أمته منها، وهذا فيه إيمان به أو إقرار بأن بعض النبوءات قد جاء عنه، وهذا يجر بتسلسل منطقي إلى ما بعده، وفي النهاية يمكن بسهولة ووضوح وضع اللبنات المفقودة في بناء النبوءات، وإذا بالبناء كله صورة ناطقة بشهادة الحق للإسلام ودولته وحضارته !!

وهذا السبيل قليل من سلكه من شرَّاح أهل الكتاب لأن الواقع أن من سلكه قد انتظم في سلك هذه الأمة المختارة وهم أخرجوه أن يكون منهم !!

2- وإما أن يضربوا صفحاً عن كل ما يتعلق بهذا الدين ويكتموه كتماً يدهش لـه كل ناظر، وهذا ما اختاروه إلا قليلاً منهم .

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن كفارهم الأولين خير منهم، وأعني بهم باحثي العصور الوسطى فإنهم لم يستطيعوا تجاوز تلك المرحلة لكنهم اختلفوا طوائف :-

1- فمنهم من وجد أنه لا مناص من الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن بعثته وملك أمته هو أعظم حدث في التاريخ العالمي كله، فلا يعقل أبداً أن تأتي النبوءات عن أحداث محلية لعشيرة صغيرة -كبني إسرائيل- وتتجاهل الحدث الأكبر الذي يتمثل في تقويض الامبراطوريات الوثنية العالمية، وقيام مملكة موحدة تعبد الله وتقدس جميع رسله على أنقاضها ؟ وهي المملكة التي بسطت نفوذها ونشرت العدل والطمأنينة على الدين والنفس والمال في معظم المعمورة، وهؤلاء تعارضت عندهم هذه الحقيقة الصارخة مع تعصبهم الأعمى لدينهم، فرأوا أن المخرج من ذلك هو الادعاء بأنهم غير مخاطبين بشريعة الإسلام، وأن الإسلام دين خاص بالعرب، ومن أشهر هؤلاء بولس الراهب الذي رد عليه شيخ الإسلام في كتابه “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح”.

2-ومنهم من كبر عليه إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم، فـزعم أنه ملك من الملوك كما كان بختنصر وسنحاريب، وأن ملك أمته هو امتداد لتلك الإمبراطوريات الوثنية . وهؤلاء في الحقيقة لا للنبوءات اتبعوا، ولا بالإسلام آمنوا، ولا لبني دينهم نفعوا فكانوا أقل ممن سبقهم عدداً وأثراً .

3- ومنهم من غلا وطغى، وعكس الحقيقة، وجعل الليل نهاراً والنهار ليلاً، فـزعم أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم هو “الدجال” أو “النبي الكذاب” أو “الوحش” المذكور في النبوءات، وأن المحاربين لـه ولأمته هم القديسون الأطهار والملائكة الأبرار، وعلى هذا التأويل الفاحش اعتمد دعاة الحملات الصليبية من البابوات والرهبان في تأجيج حماس الجماهير الغبية وسوقها إلى بلاد الإسلام(1).

إن النتائج السلبية الواضحة لهذه الآراء الثلاثة جعلت خيار الصمت والتجاهل هو المفضل لدى أكثر الباحثين لاسيما المتسترين بالموضوعية العلمية !!.

وهذه الآراء القديمة كادت أن تختفي في خضم الصراع العنيف في العصر الحديث بين الكنيسة والعلم من جهة، وبين الطوائف النصرانية نفسها من جهة أخرى، وصادف ذلك خضوع المسلمين شبه الكامل – للغرب وخروج اليهود من أحيائهم الخاصة “الجيتو” وجريهم وراء الذهب والربا والاحتكار متناسين أرض الميعاد وعهد الخلاص.

ولكن ولادة الحركة الصهيونية أعادت هذه القضايا إلى ساحة الإيمان الديني والجدل الفكري.

والعجيب أن الحركة الصهيونية لم تولد يهودية بل هي نصرانية الأصل والمنشأ، والداعون لها من اليهود جاءوا تبعاً وكانوا من العلمانيين، ولا تخطيء العين رؤية المزارع الصهيونية “كيبوتـز” نموذجاً للتطبيق الاشتراكي، ولا يحتاج الباحث إلى دليل ليقول  إن كثيراً من اليهود يرون في قيام هذه الدولة تجاوزاً لأحكام الله ونذيراً بهلاك اليهود . فالحركة الصهيونية النصرانية المتمثلة في الأصولية السالف ذكرها هي التي أعادت المعركة جذعة، وهي التي روجت ولا تزال للتأويلات الباطلة للنبوءات، وهي التي اعتبرت قيام الدولة اليهودية مقدمة لنـزول المسيح، وابتهجت بفشل مشروع السلام وقيام الانتفاضة الأخيرة..

إن هؤلاء هم الذين أظهروا بصورة عملية جلية عمق تلك الفجوة التاريخية، وريبة ذلك الصمت أو التجاهل، ومن ثم جرُّوا سائر بني ملتهم جراً إلى الخوض فيها بعد أن كانت خطراً ممنوع الاقتراب !!

وهكذا وقع الفكر العالمي عامة والدراسات المستقبلية خاصة في فوضى صاخبة، وأزمة عنيفة سببها المفارقة والتصادم بين التسليم بأن كل نبوءات الخلاص والعدل والسلام والأمة التي يتخذها الله أداة لانتقامه، ويسلطها على قوى الكفر والظلام والفساد لن تتحقق إلا في نهاية الزمان وعلى يد المسيح عليه السلام، وبين الرفض العقلي المطلق لدعوى أن قيام دولة إسرائيل وحلول الألفية هو بداية نهاية الزمان وأن ذلك المستقبل البعيد هو هذا الحاضر المشهود، والسبب في هذا هو الفكر الكتابي المتناقض الذي فتحت طائفة من أهله الفجوة التاريخية الكبرى وجاءت أخرى لتسدها بكل ما هو لا عقلي ولا منطقي !!

وهكذا ضاع الحق عند أهل الكتاب بين تجاهل مقصود وتحريف متعمد، وصدق الله تعالى : {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}.

وليس قلب الحقائق هو جريمة أهل الكتاب هؤلاء فحسب، بل إن قطع الرجاء لدى البشرية بالخلاص، وإفقادها الأمل في انتصار الحق والخير والسلام هو جريمة أخرى يجب أن يتفق على إنكارها العقلاء من كل ملة !!

إذ من البدهي أن عقلاء العالم -ومنهم عقلاء أمريكا نفسها- لن يؤمنوا قط بالمستقبل كما يرسمه هؤلاء، وإذن فأين الخلاص والرجاء..؟ أين حكمة الخالق العظيم ورحمته وعدله التي نطقت بها الكتب ودلت عليها الفطر واستدلت عليها العقول وشهد لها الواقع التاريخي الطويل..؟  أتكون هذه هي النهاية المحزنة أو المعتمة للجنس الذي كرمه الله على سائر المخلوقات..؟

لأن هذا غير ممكن أبداً، ولأنه لا يمكن إثبات الحقيقة وتنوير البشر إلا الباحث المسلم وحده، فهو الذي يمتلك النقل الصحيح والعقل الصريح معاً، لأنه لا يتمسك بالعدل أو الحياد العلمي خوفاً من النقاد، بل تقوى لله واستجابة لأمره، لذلك كله ندعو المسلمين إلى القيام بواجبهم فيهذا الشأن ونرجو أن يكون فيما نسطره هنا ذكرى لهم وتنبيه لمحبي الخير والعدل من كل ملة وأمة، ولاسيما أهل الكتاب الذين نأمل أن تعيد طائفة منهم النظر في النبوءات على ضوء القراءة التي سنقدمها لهم.

< بقلم : الشيخ سفر الحوالي

————–

(1) انظر كتاب : السعي وراء الفترة الألفية السعيدة، تأليف :نورمان كوهن، ترجمة سهيل زكار، وهو الجزء الرابع من الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية للمترجم نفسه، وبحث الروية الأوربية للعرب والإسلام خلال العصور الوسطى للأستاذ الدكتور / على بن محمد بن عودة الغامدي.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>