مع كتاب الله عز وجل :  تفسيــر ســورة التغابـن 23 {زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن}


الإنسان الفيسيولوجي غير الإنسان الذي هو حقيقة ثابتة

إذا مر على الإنسان عشر سنوات من عمره لا يبقى في جسمه خلية مما كان فيه من قبل…فإذا بلغ عشرين سنة، فجسمه كأنه قد ولد مرتين. وإذا بلغ ثلاثين سنة، فكأنه وُلِدَ ثلاث مرات، وأما بعد الأربعين فإن هذا التغيير يحصل ببطء

إن الإنسان مثل النهر، تنظر إليه فتراه مملوءا بالماء. تنظر ثم تنظر إلى النهر فتراه لحظة بعد لحظة، مازال مملوءاً، بعد نصف ساعة أو أكثر مازال كذلك، ثم تسأل : هل ا لماء الذي نراه هو الماء الذي رأيناه قبل نصف ساعة.. أبداً! فهو قد ذهب واستعمل مثلا للسقي وغيره وما نراه فهو ماء آ خر.

فالنهر يتغير، ويمتلئ مرات… والذي ينظر من بعيد يظن أنه لا يتغير.. وفي المقابل، أنت الآن، لست أبدا الإنسان الذي كا ن فيما قبل، بل لم يبق منك إلا الإسم… هل تغير الإسم؟ هل تغير الفكر؟ هل تغيرت الشخصية؟ هل تغير الإيمان؟ لا، لقد تغير الجسد.

إذن فالإنسان متكون من :

- الجسم الفيسيولوجي : الحياة.

- وحقيقة الإنسان التي هي حقيقة ثابتة.

الإنسان الحقيقة لا يتغير ولا يتحلل، وإنما يتحلل الجسد أي الإنسان الفيسيولوجي

ولكن إذا وقع أن هذا الإنسان فَقَد قُدْرَتَهُ على الحياة ومات وتحلل فإن هنالك شيئاً لا يتحلل هو حقيقة الإنسان، ولهذا قال الفلاسفة : الإنسان هو الشخصية التي لا تتغير داخل عالم متغير.

< فإذا عاش ا لإنسان 90 سنة، فهو يتغير 9 مرات : تسعة رؤوس، تعسة عظام، تسعة أجسام، تسعة أبدان..

ويولد هذا الإنسان 9 مرات دون أن تتيغر حقيقته.

الإنسان المبعوث والمحاسَب هو الإنسان الحقيقة

< لابد أن نعزل بين الجسد المتغير الذي يناله الموت وحقيقة الإنسان الذي يبعثه الله يوم القيامة ويحاسبه الله تعالى ويُنْشِئُهُ ويعامله يوم القيامة بما يشاء.

فحقيقة البعث كانت معروفة عند الإنسان منذ القديم لفطرته الإيمانية ولتوالي الرسل، وأهرامات الفراعنة خير دليل على عقيدة البعث -وإن كانت مشوهة-  ففلسفة البعث هي فلسفة إيمانية ربما وُجِدتْ عند غير المسلمين الذين يؤمنون بالبعث .

استطعنا الآن أن نُقَرِّبَ إلى الناس بِيُسْرٍ فكره البعث وفكرة إحياء الإنسان من جديد.

خصوصا أن التقدم العلمي يجب أن يستخدم في توظيف وإفادة هذا المعنى.. ربما المجال لا يتسع، ولكن على المسلمين أن يوسّعوا معلوماتهم في مختلف المجالات حتى يستطيعوا فهم الغائب عن المحسوسات بقياسه على المحسوس المشاهد، فالنظر إلى الإنسان وتجديد خلاياه في كل عقوده الزمانية يُقرِّب إليه الكثير من المسافات العلمية الغائبة عنه.

ولنقف الآن مع لفظة {زعم} التي ابتدأ بها الله تعالى هذه الآية : {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} نجد أن القرآن هنا حكى مقولة للكافرين، ونسبها إليهم، وقال {زعم الذين كفروا} وقد نسب قولهم ذلك إلى الزعم، فهو وإن كان مخالِفاً للحقيقة فرُبَّما كان بعضهم منخدعاً به. وهو في الحقيقة نوع من الكذب والخطإ الذي لا مِرَاءَ فيه.

ولكن الدُّخُول مع الخصم في مجادلة وحوار يقتضي تلطيف الجو، ويقتضي تهدئة الأعصاب، ويقتضي اختيار العبارة المناسِبة من أجل أن يُعَان هذا الخصم على تقبّل الحق.

فسمى الله تبارك وتعالى قولهم ذلك زَعْماً، ولعل سبب وقوعهم في هذا الزعم هو انطلاقهم من قدرة الإنسان وقياس قدرة الله سبحانه وتعالى على قدرة الإنسان.

جهل الإنسان بقدرة الله تعالى

هو الذي يجعله ينكر البعث

إذا كان الإنسان يظن أنه هو الذي سيقيم القيامة، هو الذي سيبعث الناس، هو الذي سيحيي الموتى فهذا لاشك أنه عملٌ صعب، بَلْ عَمَلٌ في دائرة المستحيل.

لكن هذا الأمر ليس مسنودا إلى الإنسان، وليس متوقفا على قدرة الإنسان، بل هو أمر مسنود إلى قوة تفوق قوة الإنسان بما لا يُحْصَى من المرات. والخطأ هنا هو قياس قدرة الله بقدرة الإنسان، لأن الإنسان لم يُحِطْ علما بقدرة الله تعالى.

الفارقُ الضئيل لتبيان الخطإ هو -على سبيل المثال- العقل الإلكتروني القادر على القيام بعمليات حسابية كبيرة في مُدَّةٍ وجيزة، ونفس هاته العمليات تحتاج من الإنسان لمدة أطول، لأن طاقة الحاسوب تفوق طاقة الإنسان بكثير.

ومثال آخر في نفس الصدد هو قيامُ الحاسوب -في مكتبة تحتوي على 25000 كتاب بالبَحْث عن عناوين خاصة لمؤلِّف معيّن، فإن ذلك يتم في وقت وجيز (لحظات) بينما يتطلب ذلك البحث من الإنسان أياما عدة.

فكيف بالإنسان الذي لا يستطيع أن يَبْلُغ بعقله قُدْرة العقل الإلكتروني أن يتَعَدّاه إلى قدرة ا لله وعلمه؟؟!

ولكن الكافر لا يعرف حجمه، ويتطاول، ويقول كلاما ليس منشؤه أنه مفكر، ولكنّ منْشَأهُ أنه جاهل، ولا يعرف جهله.

وهذا مثال آخر: رصد تلسكوب “HUBBLE” أشعة وصلت إلى الأرض لا يعرف  العلماء مصدرها لحد الآن. وذلك بعد أن قطعت الملايين من الكلومترات في هذا الكون العظيم، عظمة الإنسان تتجلى في أن عقله استطاع أن يخترع التلسكوب، ولكن عجزه يتمثل في أنه لا يستطيع أن يفعل ما تفعله الآلة التي اخترعها هو بنفسه. فهل كان الإنسان يعلم -قبل القرن العشرين- ما سيخترعه في القرن العشرين؟؟، وهل يعلم ما سيكون عليه بعد قرن آخر من الزمان؟؟! كيف ستكون مخترعاته؟؟ كيف ستكون خارطاته السياسية والاقتصادية؟؟ كيف ستكون بيآته؟؟ كيف ستكون أمراضه التي سيتغلب عليها أو التي يبقى عاجزاً أمامَها؟؟ كل ذلك وغيره غيبٌ من الغيوب في دنياه، فأنّى له معرفة حياته في غير داره الدنيوية؟؟! وأنى له أن يجزم بأنه سيفنى -بعد الممات- ولا يُبعث؟؟! ذلك شيء بعيد عنه.

الكفر جهل وغرور وتطاول على مقام الألوهية

إذن الكفر جهل وغرور، وصاحبه لا يعرفمكانه في هذا الكون، ولا يقيس الأشياء كما ينبغي أن تُقاس. وهو اعتداء مبالغ فيه -بالعقل- على العقل الإنساني، وتنزيلٌ لإرادة الله على عقل الإنسان الذي غلبته حديدة صنعها بيده. مصنوعاتٌ كثيرة صنعها الإنسان فأصبحت تفوق قدرته وطاقته، صنع علبة صغيرة فأصبحت تدمر الكون.. من قنابل وعُلب الجراثيم والميكروبات وغيرها.

إذن القرآن يقف مع هذا الجهل الكافر يقول : {زعم الذين كفَرُوا أن لنْ يُبْعَثُوا..} يقف مع هذا الجهل الكافر، مع هذا النفي الجازم بعدم البعث، مع التطاول على مقام الألوهية بدون علم ولا برهان، ولا دليل.

د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>