توسمات جارحة : هل نملك جناحيْ الصدق والخشوع والاستعداد؟


كنت أسمع الضجيج الآتي من باحة المنزل، كانت الضحكات تنطلق بصخب، نداء الاستغاثة يتعالى بشكل متقطع، يرتفع صوتي من المطبخ ناهرا :”لماذا تضايقها ياولد ” “ألا تتعبان من القفز” اجلس ياولد لقد كبرت على الفوضى”.يأتيان مسرعين يتقافزان بمرح حولي، أرفع حفيدتي بين يدي وأقبلها بشغف، يحتج ولدي ضاحكا :”وأنا ياأمي؟” أطوقهما بكلتا يدي، تعالت ضحكاتنا وأنا أدغدغهما، انفلتا مني وتسابقا نحو غرفة الجلوس. سمعت ولدي يشعل التلفزة ويقول لابنة أخته مهددا :”اسمعي.. ستبدأ الرسوم المتحركة،لاأريد أن أسمع أي حركة”. كان يجد متعته في الضغط على زر الاستبدال لينتقل من فضائية إلى أخرى باحثا عن رسوم تشده إليها فيندمج فيها ويغيب عن العالم من حوله.كنت دائما أحرص على متابعة الرسوم معه للتدخل في الوقت المناسب قبل أنيتسرب منها ما ينخر تربيتي له،ولأضمن عدم انطوائها على قيم ومبادئ مغايرة تدخله نحو صراعات تفقده التوازن في شخصيته قبل استكمال نضجها. كانت القناة التي توقف عندها تبث أغنية وطنية.أخذه الحماس وهو يغني معها بصوت صاخب ويستفز آية للغناء معه. انغمست في ترتيب الغرفة، انقطع الحس حولي، تصاعد الصمت ينذر بخروج الطفلين من حالة الفرح والانتشاء إلى حالة أخرى. نظرت تجاههما، كان ولدي قابعا أمام التلفزة يتابع الأخبار الآتية من فلسطين،تسمرت أمامه أشاهد ما بلغته الوحشية الصهيونية من ممارسات تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل. أجساد بريئة تتناثر في كل الجهات لاذنب لها سوى تشبثها بأرضها، دماء تسيل كأنهار تلون وجه التاريخ المعاصر، شعب يباد وسط فقاعات كاذبة من الدعوات إلى وقف النار والحق المشروع لإسرائيل للدفاع عن النفس، وكأن للمستعمر بدباباته وأسلحته المتطورة ووحشيته الحق في عدم كبت شهوتهلسفك الدماء الطاهرة ولا حق للشعب في الدفاع عن أرضه المغتصبة، وإذا رفع حجرا أو أتقن صناعة الشهادة أبيد بتهمة الإرهاب.رفع ولدي عينان حزينتين إلي، كانت تموج فيهما تساؤلات ممضة حائرة، أحسست أن براءة العشر سنوات التي يحملها قد انزوت وأفسحت المجال للمرارة والحزن يعشعشان في أعماقه.قال باندهاش :

-”أمي إنهم يقتلون الأطفال عن قصد”.

كان يتكلم بصوت منخفض وعيناه تتابعان المجزرة، طفل لم يتجاوز الرابعة يحمل بين يديه حصانا خشبيا يسقط بين أحضان أمه، أخفى عينيه بكلتا يديه وحين رفعهما إلي شعرت أنه يُسكِن ملامح الشهيد الصغير في أعماق ذاكرته قبل أن يتوارى في أحضان الجنة.هتف :

-”أمي أريد أن أذهب إلى فلسطين لأحارب اليهود”.

-”لم يفتح القادة الحدود بعد ياولدي”.

- “ولم؟ ألسنا أمة واحدة كما تقولين لي؟”

- “بلى ياولدي لكن لم يحن الوقت بعد للجهاد كأمة واحدة، يجب أن نتحرر من خوفنا ومن شتى العبوديات التي تتملكنا قبل ذلك ”

أحسست أن الحيرة تكاد تأخذه من فهم ما أقصده، تابعت :

-” ليس لنا سوى الدعاء ياولدي”

-”لكن ألا يقوم الناس كلهم بالدعاء منذ مدة، إني كلما ذهبت إلى المسجد للصلاة أرى الناس يدعون لكشف الغمة عن المسلمين ويستعجلون النصر”

قلت :”أعتقد أن الدعاء ياولدي يرتطم بأسقف البيوت والمساجد ويرتد حسيرا فلا يصل إلى السماء”.

تساءل بحيرة :”لماذا ؟”.

-”لأنها لا تملك أجنحة الصدق والخشوع والاستعداد”.

انغمس في الصمت يحاول فهم ما يجري، كانت آية ذات العامين تجذبه من يده بإصرار “احبيبو، احبيبو، خالي”شعرت وكأنها تحاول أن ترده إلى إشعاعات الطفولة التي كانا يعيشانها قبل لحظات، لكن دون جدوى فقد انغمس  خالهـا الصغير في رجولة مبكرة.

< الأديبة  الدكتورة   أم سلمى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>