أثر الزكاة في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية(3)


 

مشكلة الحقد والعداوة وفساد ذات البين

إن من أهداف الزكاة تعميق َالأخوة والمحبة بين أفراد المجتمع، وتوثيق صور التعاون والترابط بينهم، وواضح أن لذلك أثراً فعالا في إيجاد المجتمع القوي المستقر.

وانتشار مظاهر الجوع والحرمان والفقر يولد الحقد ويدفع إلى الكراهية، ومن ثم إلى خلخلة أمن المجتمع واستقراره وزعزعة كيانه بأنواع الاضطراب، والصراع والفوضى، وهو ما نراه اليوم في مجتمعاتنا. قال تعالى : {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة : 273). وبالإضافة إلى خلخلة أمن المجتمع واستقراره فإنها تكثر أيضا النزاعات والخصومات وتفسد العلاقات وقد بين رسول الله صلى عليه وسلم أثرها السيء بقوله : >إن فساد ذات البين هي الحالقة<(1).

ومن وسائل حل هذه المشكلة -فساد ذات البين- المال، فقد جعل الله تعالى من أغراض مصرف الغارمين، هذا الغرض، والغارمون نوعان : غارم لمصلحة نفسه، وغارم لمصلحة المجتمع، فالنوع الأول هو الذي استدان الأمر يعود له، والثاني هو الذي استدان الإصلاح بين الناس. وقد نص عدد من العلماء على أنه في النوع الثاني يعطى الغارم ولو كان غنيّاً(2) وقد بين هذا رسول الله صلى عليه وسلم في حديث قبيصة بن المخارق حينما قال له : >يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة<، وذكر من بينهم : رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك<(3)، والحمالة هي الزعامة والكفالة أي : ما يتحمله الإنسان ويلتزمه في ذمته ليدفع في إصلاح ذات البين”(4) وقد بين القرطبي أن قوله عليه السلام فيمن تحمل حمالة: فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك : “دليل على أنه غني، لأن الفقير ليس عليه أن يمسك حتى يصيب قواما من عيش”(5).

مشكلة الكوارث والجوائح

الابتلاء سنة إلاهية لقوله تعالى : {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك : 2)، وقوله : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}(الأنبياء : 35). ومما قد يبتلى فيه الإنسان المال، فيصيبه غرق أو حريق أو زلزال أو أي نوع من أنواع الكوارث يكون سبباً في إتلافه، فما هو الحل إذن؟

لقد جعل الإسلام في مصرف الغارمين حلا لهذه المشكلة، حيث بين العلماء أنه مما يدخل في هذا المصرف الذين اجتاحت أموالهم جائحة وأفقرتهم واضطرتهم للاستدانة؛ يقول ا بن جرير الطبري رحمه الله نقلا عن مجاهد في أكثر من رواية : “إن سهم الغارمين يشمل ثلاثة : هم من ذهب السيل بماله ومن أصابه حريق فذهب بماله، ومن له عيال وليس له مال فيستدين وينفق على عياله”(6). وفي حديث قبيحة نجد النبي صلى عليه وسلم يذكر من بين الثلاثة الذين تحل لهم المسألة : >رجل أًصابته جائحة< اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتىيصيب قواماً من عيش..<(7).

وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : “قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءل أموالنا(8)، فقال صلى عليه وسلم : يسأل الرجل في الجائحة والفتق(9) ليصلح بين الناس<(10).

ويلاحظ هنا أن الزكاة تقدم بهذا نوعاً من التأمين الاجتماعي ضد الكوارث والجوائح، يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي : “فهذه هي جمعية المسلمين للتعاون الاجتماعي وهذه هي شركتهم للتأمين، وهذاهو مالهم الاحتياطي”(11).

ولكن قد يقول قائل : إننا نعرف اليوم أنواعاً متعددة من التأمين الاجتماعي فنقول : هذا التأمين الذي عرفه العالم لا يعوض إلا من شارك فيه بما دفعه من أقساط، وأن ما يدفع يقدر على أساس هذه الاشتراكات. وأما الشركات التجارية للتأمين فيتم التأمين وفق مبلغ يُتفق عليه بصرف النظر عن حاجة الإنسان، وما تعرض له من خسارة، وعلى أساس أنه صفقة تتم بالاتفاق، فهدفها الحصول على الربح، واستغلال الناس لحاجتهم إلى الأمن، أما في نظام الزكاة فلا يشترط دفع أقساط سابقة، ويعطى المصاب قدر حاجته ومقدار ما يعوض خسارته.

مشكلة العزوبة

إن حفظ النسل من الضروريات الخمس للشريعة الإسلامية ومعناها؛ كما يقول الشاطبي : “أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى، فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين”(12) وأو ل طريق للمحافظة على النسل هو طريق نظام الزواج لأنه سنة الله في خلقه ولأن “كل عاقل يحب أن يبقى اسمه ولا ينمحي رسمه..”(13).

فإذا كان الإسلام قد أمر بالزواج كل قادر عليه لقوله صلى عليه وسلم : >من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج<(14)، فإنه لاشك قد شرع إعانة الراغبين في الزواج ممن عجزوا عن تكاليفه المادية من المهر وغيره. ونجد هذا في سيرة الخلفاء رضوان الله عليهم حيث جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد أن عمر بن الخطاب قال : >إن جاءني خمس العراق لا أدع هاشمياً إلا زوجته ولامن لا جارية له إلا أخدمته”(15). وهذا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يأمر من ينادي في الناس كل يوم : أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين الناكحون (أي الذين يريدون الزواج)؟(16)؛ وذلك ليقضي حاجة كل طائفة منهم من بيت مال المسلمين.

وقد نقل الدكتور يوسف القرضاوي كلاماً عن العلماء مفاده : “أن من تمام الكفاية ما يأخذه الفقير ليتزوج به إذا لم تكن له زوجة واحتاج النكاح”(17).

فمؤسسة الزكاة إذن تتدخل لإحصان الشباب وإقامة الأسر المسلمة؛ حتى لا تنتشر الرذيلة في المجتمع فتنتهك الأعراض وتكثر الأمراض كما هو الشأن اليوم.

مشكلة العزوف عن تحصيل العلم

إن بعض النجباء لهم تطلع كبير لتحصيل العلم إلا أن نفقاته تثقل كاهلهم، فيتوقفون في الطريق، فهؤلاء تحمل الأمة مسؤولية الإنفاق عليهم، لأن فائدة العلم غير مقصورة عليهم، بل هي للأمة جمعاء، يقول د. يوسف القرضاوي في شأن المتفرغ للعلم : “فأما إذا تفرغ لطلب علم نافع، وتعذر الجمع بين الكسب وطلب العلم، فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يعينه على أداء مهمته، وما يشبع حاجاته… وإنما أعطي طالب العلم لأنه يقوم بفرض كفاية.. فمن حقه أن يعان من مال الزكاة، لأنها لأحد رجلين، إما لمن يحتاج من المسلمين، أو لمن يحتاج إليه المسلمون، وهذا قد جمع بين الأمرين”(18). إلا أن بعض الفقهاء اشترطوا أن يكون نجيباً يرجى تفوقه ونفع المسلمين به، وإلا لم يستحق الزكاة، كما نقل ذلك الإمام النووي في المجموع(19).

وهذا قول وجيه وهو الذي تسير عليه الدول الحديثة حيث تنفق على النجباء والمتفوقين بأن تتيح لهم دراسات خاصة أو ترسلهم في بعثات خارجية أو داخلية.

خاتمة

لا يمكن للزكاة وحدها أن تحل المشاكل التي تعيشها المجتمعات الإسلامية في غياب تطبيق باقي الشرائع الأخرى، لأنها جزء من نظام الإسلام المتكامل. والإسلام بناء إذا اختل ركن من أركانه اختل البناء كله. وهو أيضا منظومة منسجمة لا تقبل التجزيء ولا التشطير، ولا يجوز أخذ بعضها وترك بعضها. وقد عاب الله على اليهود مثل هذا الصنيع حيث قال : {أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون}(البقرة : 84).

<  ذ. عمر داود

 

—–

1- رواه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق، والورع، رقم 2433.

2- الأحكام السلطانية، للماوردي، ص : 157.

3- انظر حديث قبيصة المذكور سابقا.

4- نيل الأوطار للشوكاني : 189/4.

5- تفسير القطربي : 184/7.

6- تفسير الطبري : 401/9-402.

7- انظر حديث قبيصة المذكور سابقا.

8- يعني يسأل بعضنا بعضا.

9- الفتق هو النزاع والشر وضده الرتق.

10- الأموال، لأبي عبيد، ص : 657- 658.

11- أسس الاقتصاد الإسلامي والنظم المعاصرة ومعضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام، أبو الأعلى المودودي، ص : 140.

12- الموافقات : 17/2- 18.

13- المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، ص : 399.

14- رواه البخاري في صحيحه،كتاب الصوم، رقم 1772، وفي كتاب النكاح، رقم 4677.

15- الأموال لأبي عبيد، ص : 419- 420.

16- البداية والنهاية لابن كثير : 200/9.

17- فقه الزكاة : 911/2.

18- مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، للدكتور يوسف القرضاوي، ص : 103.

19- المجموع، للإمام النووي : 177/6.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>