مع كتاب الله عز وجل :   تفسير سورة التغابن (13): {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}


الشعور بالجمال الحسي يقود للشعور بالجمال المعنوي في الصدق والعفة والمروءة والنظام

إن حياة المسلمين يجب أن تصطبغ بالجمال وتتوجه إلى التِمَاس مظاهر الجمال في الكون، فعندما حدثنا الله تعالى عن الثمار التي تنضجها الأشجار فلابد أن تستهويك إجّاصة متدلّية أو تفاحة، فإن الجانب الجسدي فيك هو الذي يسرع إليها، أ ي حُبُّك للأكل والطعام يدفعك إلى أن تختار التفاحة الأكبر والناضجة، فأنت تفكر فيها ببطنك لكن كتاب الله قال : {انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمر ويَنْعِهِ}(سورة الأنعام) يأمرك بالنظر للشجرة والزهرة والنظر إلى هذا الجمال في الطبيعة وأن تشكر الله على هذا الجمال، لأن هذا الجمال يقربك إلى الله عز وجل {فَلْيَنْظُرِ الإنْسان إلى طعامه}(سورة عبس) إلى الطعام قبل أن يأكله، ولقد ذكر أن بعض العلماء كان إذا أعجزه أن يخرج إلى الطبيعة ربما ذهب إلى بعض دكاكين الخضارين فينظر في الفواكه المصفوفة ويتأملها ثم ربما يشتري منها أولا بشتري وإذا قيل له لماذا تنظر إلى هذه الفواكه قال لأن الله تعالى قال {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} وبما أنني عجزت أن أنظر إليها في شجرتها أنظرها وقد رصفت على أخشاب الخضارين، وهذا مطلوب في المؤمنين وليس فيه شيء يُنكر بل هو شيء مدعوُّ  إليه.

وحينما تحدث الله تعالى عن الأنعام ذكر لنا أن فيها منافع وفيها دِفْئاً ومنها تأكلون، ثم قال : {ولكُم فيها جَمَالٌ حِينَ تُرِيُحون وحِينَ تَسْرَحُون وتحْمِلُ أثقالكم إلى بلد لم تَكُونُوا بالِغِيه إلا بشِقّ الأنْفُس}(سورة النحل) فالله تعالى ذكر جميع وظائف الأنعام فيها دفئ من أوبارها وأصوافها، ومنها تأكلون إذا ذبحتموها، ثم قال ولكم فيه جمال حين تريحون وتنظرون إليها، وحين تسرحون، فالشاة ليست فقط مصدراً لرزق هي والبقرة، وليست فقط مصدرا للبن والجلد، إن فيها قبل هذا وذاك حركة  ولها نشاط يجب أن يستوقف المسلم، ويجب عليه أن يحس بجمال هذه الأنعام، فالمسلمُ له ذوْقٌ أصّلَهُ فيه الإسلام الذّوق المرتفع، هناك ذوق المساحيق، ذوق يُرْضِي الجسد ويُرْضي الشهوة لكن ذَوْق المسلم ذَوْقٌ يرفع إلى الأعلى ويُضخِّمُ الفكر، ويجعل الإنسان قادرا على استيعاب أسرار الطبيعة، فالفرق كبير بين من ينظر إلى الجمال كما يريد الاسلام وبين من ينظر إليه كما  تنظر إليه الحيوانات لأن حياة المسلمين يجب أن يكون فيها نظام وفيها جمال، لا يقبل المسلم الشيء الغير الجميل يجب أن تمْقُتَهُ عيْنُه وبَصَرُه، رسول الله  كان يحب الجمال والتنسيق، في كل شيء بين الألوان، وفي المواقع، وفي الكلام كان  يتتبع كلمات العرب وكان يدعوهم لتغيير بعضها بكلمات أخرى فيها ذَوْق. والقرآن نفسه يقول : {لاتَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انْظُرْنَا}(سورة البقرة) لأن انْظرنا فيها معانٍ أخرى، حتى القرآن يؤصِّلُ هذا الذوق الجميل.

والصحابة كانوا على قلب مستقبم، وسلوك مستقيم، ولباس معتدل انظر إلى الصلاة، فهي ليست كالذي يقول كيفما صلّيْنا، صفوف غير متراصة ولا منظّمة المهم هو الصلاة، وواحد يأتي ويصلي في آخر المسجد وحده، الناس لم يفهموا الحكمة من الإسلام في تسوية الصفوف في الصلاة، الفقهاء مثلا يحثون على الترتيب بين الفرائض في الوضوء والصلاة وبين الفرائض والسنن لأن الأمة بنبغي أن تكون منظمة، وإذا كانت الأمة تمارس عملا منظما وجميلا فتفكيرها منظم، وعقليتها منظمة، واستدلالاتها وتحليلاتها منظمة، وبالتالي تكون أمة تستحق أن تعيش عصْرها.

الإسلام أراد للأمة أن تكون جميلة في سلوكها وأفعالها وهذا في الشريعة الإسلامية له شواهد كثيرة لأن الإحساس بالجمال المادي هو طريق إلى الإحساس بالجمال المعنوي، نحن مطالبون بالأخذ بجمال أرقى ونفِرّ من قبح آخر أخْزَى هو قبْحُ المعصية والرذيلة.

مثلا الرجل الذي يقدّم رشوة ويصبح يذكرها بدون مبالاةٍ (ادْهَن السيريسِير واقْضِ حاجَتَك) هذا لا يشعر بقُبح فعْلتِه فكل الناس يعلمون أن الرشوة حرام حتى الحاجّ يُعْطي رشوة ليذهب إلى الحج، لا تذهب ولا تُعط رشوة، والذي يأخذها ويتَبَجّحُ بها ويتمَوّل بها، فقدَ الحِسَّ بالقبح، قبح الفساد الخلقي، كما فقد الحس بالجمال، جمال التيسير وقضاء حاجات الناس بدون تعقيد.

الرذائل والفضائل لا يصل إليها كثير من الأنفس بسهولة، الصدق فضيلة كيف نستطيع أن نعرفه عندما يعُمّ الكذب ويُصبحُ هو العملة الرائجة كل الناس يكذبون حتى وسائل الإعلام لا يوثق بها، كيف يمكنك أن تعتقد أن الصدق فضيلة في هذه الظروف، وكيف يمكنك أن تعتقد أن المروءة والعفة والقناعة وأشياء في هذا القبيل كلها من الفضيلة، وأنت ترى الناس ينافقون ويتمسَّحُون بالأحْذية، ويتسلّقون ويصلون إلى أعلى المراتب بالكذب والرشوة والنفاق. المهم أن نعرف أن الصدق والعفة وغيرها هي فضائل، فالذي لا يملك الحس والذوق في المسائل الحسية لا يمكنه أن يرى الجمال في الفضائل كالصدق وغيره من الفضائل.

والإسلام يُعْلي ويرفع من ذوق الإنسان ويجعله ينظر إلى هذه الفضائل على أنها فضائل، وإلى الرذائل على أنها رذائل يجب ترْكُها.

كتاب الله يتحدث عن الصفح الجميل، والهجر الجميل، والتسريح الجميل، والصبر الجميل، ليُدرّب الإنسان على أن يحس بالجمال المعنوي انطلاقا من الجمال الحسي المادي الذي بالإمكان أن يراه الإنسان بيسر وسهوله، إذا كان الله تعالى يمن على العباد بالصورة الجميلة بالقوام الجميل فإن هذا يستفاد منه أن الجمال يكون دليلا مرشدا إلى دليل العناية الإلاهية، وأنه يدل على صفات الجمال لله عز وجل، وأنه يدعو المسلمين إلى أن تصطبغ حياتهم بالجمال لأجْل أن يكون ذلك قنطرة للوصول إلى الجمال المعنوي حتى يكونوا في المستوى الذي يريده لهم الإسلام.

إلى الله تعالى المصير فليحذر الإنسان أن يقف بين يديه مخزيا مهانا

نفهم من المرجع إلى الله تعالى إقرار البعث، وإقرار يوم القيامة، وإذا كان الإنسان آمن بالله، وآمن باليوم الآخر، فإن سلوكه ولاشك سيتحدد على ضوء هذا الإيمان وعلى ضوء هذه الحقيقة، حقيقة الرجوع إلى الله تعالى الواسع العلم الواسع القدرة، الواسع الإرادة {يعلم ما في السماوات والأرض ويعْلم ما تُسِرُّون وما تعْلنون والله عليم بذات الصّدُورِ}.

وهذا طبعا جواب على تساؤلات مشركي مكة ومجادلاتهم وتمحّلاتهم في إنكار البعث، وإنكار العلم الرباني المحيط، وإنكار القدرة على بَعثِ من أصبح رميماً، أي مندثراً اختلطت ذرّاتُ جسمه مع ذرات التراب، أو أصبحت هباء في أعماق البحار أو أعالي الفضاء، أو في أي مكان أوزاوية من زوايا الكون.

فكيف يمكنه أن يعود كما كان؟؟ ومن يعلم موضعه؟؟ هذه إشكالات تطرأ على ذهن الإنسان غير المومن. أما كتاب الله تعالى فيحسم الأمر ويقول : إن هذا الإشكال غير موجود لأنه ليس هناك شيء في هذا الكون، مهما دقّ، ومهما صغُر إلا وهو في علم الله تعالى، كل ما في الكون معلوم موضعه، معلوم مكانه، فعلم الله تعالى حاضر، وإرادته حاضرة، وقدرته حضارة، لا يعزب عن علمه سبحانه وتعالى شيء، وأمْرُه إذا أراد شيئا فهو يقول له {كن فيكون}.

والله تعالى يقول للمشركين {يعلم ما في السماوات والأرض} أي كل ما تناثر في السماوات على شساعتها ورحابتها، وما تضمه من كواكب ونجوم، ويعلم أدق الجزئيات في الأرض، فكل ذلك مضبوط معلوم مُحْصًى.

كما يعلم ما يخفيه الإنسان في قلبه ولا يظهره لأحد، وما يجهر به ويظهره للناس من قول أو عمل، فهو سبحانه يعلم السرائر والنوايا المستترة في الصدور، ويعلم الظواهر، وكل الظواهر والبواطن يحصيها الله تعالى عنده في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وهذا الكتاب هو ملف الإنسان الي سيصْحبُ الإنسانَ ليحاسب على ما سُجّل فيه أمام ربه، ويقال له {اقْرَأ كتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ علََيْكَ اليَوْمَ حَسِيباً}(سورة الإسراء).

معرفة هذه الحقيقة، والتيقّن من هذا الموقف يجعل الإنسان يستعد له حتى لا يقف مخزيا مُهانا أمام من لا تخفى عليه خافية من أمره، أما المشرك، أو الكافر، أو المنافق، أو العابث، فإنه لا يبالي بهذه التحذيرات، ولذلك يتمنى يوم القيامة أن يكون ترابا، أو لم يُعطَ كتابه {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباَ}(سورة النبأ) أو يقول : {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيّهْ}(سورة الحاقة).

> د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>