دروس من سيرة المصطفى


يستطيع كل قارئ للنصوص والتوضيحات التي أوردناها في العدد 161 عن نسب الرسول  أن يستنبط بنفسه فوائد كثيرة، وهذه بعض الفوائد التي يجدر بالقارئ أن يتنبه إلَيْهَا :

2) الابتلاء من اللَّه تعالى شرف وتزكية :

الابتلاء من اللَّه تعالى يكون في الأحَبِّ للإنسان الصالح المختار حتى لا يبقى لله تعالى شريك في قلب ذلك الإنسان المصطفى الـمُصَفَّى، ولهذا نجد أن اللَّه تعالى ابتلى إِبْرَاهِيم \ في ولده البكر -إسْمَاعِيل \- الذي جاءه على كبر بعد أن كاد ييأس من الذرية، فقال {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} -الصافات : 100- جاء بعد تشوق ودعاء وتضرع، وبعد أن يئست سارة رضي اللَّه عنها من أن تحقق له ما يرجو فوهبت له هاجر عليها السلام التي شرفها اللَّه تعالى بولادة أفضل ذرية من أفضل رجل صالح على وجه الأرض، وعندما ملأ إسْمَاعِيل العَيْن، واحتل المكانة الرفيعة في قلب الأبوين. كَلَّف اللَّه تعالى إِبْرَاهِيم \ بذبحه، فكانت الاستجابة الإيمانية التلقائية العفوية لأمر اللَّه تعالى، فهو الذي أعطى، وهو الذي من حقه أن يأخذ، سواء من الأب أو الأم، أو الولد، أَي الأسرة كلها لا تأثير للشيطان أو الهوى على نفسها، فكان الإكرام من اللَّه تعالى للعبيد الذين لا حُبَّ في قلوبهم لشيء يعلو فوق حُبِّ اللَّه تعالى، فكان الفداء بالذِّبح العظيم الذي جعله اللَّه عز وجل سنة باقية للمسلمين إلى يوم الدين ليبقى شرف الأسرة العابدة خالد الذكر على الدوام.

ويتكرر نفس الابتلاء مع جدِّ رسولنا ، حيث يبتليه اللَّه تعالى في أحب ولده (عبد اللَّه والد الرسول) ليكون الفداء بمائة ناقة، لتبقى القصة مشهورة منبهة على شرف الشاب المحبوب (عبد اللَّه) الذي تعلقت به الأنظار، فيتزوج من أشرف النساء آمنة بنت وهب، ويغيب بدون فداء بعد أن أدى مهمته لتبقى الأنظار متعلقة بمولوده وخلفه اليتيم (محمد ) حتى ينشأ والقلوب متعلقة به والأنظار متوجهة إليه لأكثر من سبب، فيدعو إلى اللَّه -عندما يبعث- وهو في الذؤابة من الشرف والفضل والشهرة.

وهذا الابتلاء كما كان في أحب شيء للإنسان بالنسبة لإِبْرَاهِيم \ وجَدِّ الرسول عبد المطلب، فإننا نجد هذا الابتلاء نفسه يتكرر – أيضاً – مع يعقوب \ في ولده يوسف \ ثم بعده في أخيه بنيامين، وكذلك الأمر بالنسبة لأم موسى \، حيث أمرها اللَّه تعالى بأن تلقيه في التابوت وتلقيه في اليم فألقته وقد أفرغ اللَّه تعالى قلبها من كل همٍّ وحسرة عليه، لأن اللَّه عوضها عنه بالرضا والأطمئنان.

بعد النجاح في الامتحان الصعب يكون الاستخلاف والتمكين وشرف الذكر والخلود، فإِبْرَاهِيم \ مُكن له في الشام ومكة فكان على يديه بناء أول بيت وُضع للعبادة في الأرض {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} -آل عمران : 96- وثاني بيت هو بيت المقدس الذي بناه بعد أربعين سنة من بناء الكعبة قبلة المسلمين إلى اليوم، ويوسف \ مُكِّن له في مصر. وموسى \ كان على يديه استنقاذ بني إسرائيل وتدمير أكبر متجبر متأله بدون حق. ويكفي هؤلاء الأخيار الأبرار أن اللَّه تعالى خلدهم في أشرف كتاب محفوظ، وأخلصهم بِخَالِصَةِ ذكرى الدَّار وقال فيهم وفي إخوانهم من الأنبياء والرسل {وإنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ المصْطَفَيْنَ الأَخْيَارَ} -سورة ص : 46-.

والدرس المأخوذ: لا شرف بدون النجاح في الابتلاء، ولا تمكين بدون النجاح في الابتلاء، ولا نصر بدون النجاح في الابتلاء، فليس الدّعاة من ورثة الأنبياء بأشرف على اللَّه تعالى من أنبيائه ورسله، فإذا لم يكونوا مستعدين للتضحية بكل شيء، بكل شيء على الاطلاق، فلا حق لهم بأن يقولوا نحن ندعو  لله تعالى وقلوبهم لم تتخلص من حُبّ الدنيا، وحب الولد، وحب الزوجة، وحب الوظيف، وحب السلطة، إلى درجة ترك الدّعوة أو جعلها على الهامش عند التعارض مع المحبوبات الرخيصة، وبعد ذلك نرجو نصراً، ونرجو تمكينا لدين اللَّه تعالى، دين اللَّه تعالى لا يتمكن في الأرض إِلاَّ بعد أن يتمكن من القلوب.

يكتبها :

ذ. المفضل فلواتي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>