خطب منبرية: الوظيفة التربوية لصلاة الجمعة..


الحمد لله رب العالمين، الذي كتب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه وإحسانا، وأقام لهم من شريعته فرقانا بين مطارح الشهوات والأهواء الجانحة، والمسالك إلى مصالحهم الفطرية النافعة، فحذرهم من الانزلاق في الأولى وهداهم إلى اتباع مسالك الأخرى، وأمرهم أن يبتغوا بذلك كله الدار الآخرة وأن يمحضوا قصدهم إلى مرضاة الله وحده، حتى يتحقق فيهم التعبد اختيارا، كما تحققت فيهم صفة العبودية له إجبارا.

وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأسأله سبحانه أن ينير أمامنا السبيل بقبس من هديه ونفحة من توفيقه، وعلى آله وصحابته خير أمة أخرجت للناس.

أما بعد : فلماذا ذلكم الترغيب والترهيب في أمر صلاة الجمعة؟ لماذا ذلكم الإلحاح الشدد على التبكير، والتخلي عن كل المشاغل؟ والاستعداد لها بالاغتسال والتطيب والتجمل وكل ما يعين على حضورها في ظروف مريحة بدنا ونفسا وفكرا.

عباد الله، هذا الاهتمام الكبير لا يمكن أن يكون إلا لأمر جلل مهم خطير في هذه الخطبة، فما هو؟؟

إنه الذي سماه القرآن “ذكر الله”، التفرغ لعبادة الله بعد أسبوع من المشاغل ومتاعب الحياة، الرجوع إلى الميزان، ميزان الأسبوع.

خطبة الجمعة عين ساهرة على التوعية الداخلية التي تجعلنا نستقيم على الصراط، والتوعية الخارجية بإعطاء القدوة والمثال، في الجمعة يتم استصلاح المؤمنين، وإعدادهم لدار الأخرى، والتزود بما ينفعهم هناك، والترقي في مدارج الكمال الروحي والنفسي ليكونوا أهلا لدخول الجنة، تلك الدار الطيبة، التي لا يدخلها إلا الطيبون، وهناك يقال لهم {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين}، {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.

خطبة الجمعة تتسع لذلك، حتى إن عمربن الخطاب ] كان يعلم الناس على المنبر يوم الجمعة طريقة اقتصادهم في معيشتهم، قال وهو على المنبر : >املكوا العجين، فإنه خير من الربعين، أو قال خير من الطحينين< أي اعجنوه جيدا ليزيد، وسأل إنسان فقيه التابعين عطاء بن أبي رباح : لم أدرك الخطبة إلا وهو في المكيال والميزان؟ قال : قد أمر الله بذلك، فذلك من الذكر”.

تقوم خطبة الجمعة بدور وقائي ودور علاجي في الوقت نفسه، أما دورها العلاجي فيرجع إلى أنها تمد الفرد بأنواع من المعلومات الدينية، والإرشادات العملية التي توجه سلوكه في الحياة توجيها سليما، وتزيد من قدرته على مواجهة مشكلات الحياة، أما دورها العلاجي فيرجع إلى التأثير الذي تحدثه خطب صلاة الجمعة في زيادة استبصار الفرد لذاته ولما يعانيه من بعض مشكلات الحياة، وفي تقوية إرادته على مواجهتها ومقاومتها والتغلب عليها وقد يلجأ بعض الأفراد بعد الصلاة إلى السؤال عن مشكلاتهم، وقد يجدون في الخطبة ما يخفف حدة قلقهم ويوجههم إلى الطريق السليم للتغلب على مشكلاتهم.

يرجع المسلم من خطبة الجمعة وقد استفاد فائدة دينية وحصل مسألة شرعية، وتأثر بموعظة حسنة، وتزود بشحنة وطاقة إيمانية تترك أثرها في قلبه ونفسه وعقله، وتجعله يقبل على العمل الصالح، ويراقب الله ويستحضره في كل قول يقوله، أو عمل يعمله، أو سلوك يسلكه، ويكون بذلك مثالا للمؤمن الصالح الذي يعمل لدينه ودنياه، ولنفسه ومجتمعه وأمة الإسلام جمعاء {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.

تؤدي صلاة الجمعة دورا علاجيا هاما في تقويم شخصية الأفراد وعلاجها وهو ما يقوم به العلاج النفسي الجماعي، إذ تحرر طاقات الناس النفسية، فيظهرون كثيرا من الحيوية والنشاط وتزداد قدرتهم على العمل والإنتاج، صلاة الجمعة تحدث الشعور بالأمن وتحرر من القلق، وتساعد على انطلاق طاقة الإنسان النفسية التي كانتمقيدة، فيشعر الإنسان بتدفق النشاط والحيوية في كيانه، وفضلا عن ذلك فالاتصال الروحي بين الإنسان وربه في الصلاة يمده بطاقة روحية تجدد فيه الأمل، وتقوي فيه العزم.

وصلاة الجمعة تتيح للإنسان فرصة التعرف بجيرانه وبكثير من الأفراد الآخرين ممن يسكنون في الحي نفسه أو في أحياء أخرى، مما يساعد على تفاعله مع الآخرين، وتكوين علاقات اجتماعية سليمة، وعلاقات صداقة ومودة معهم.

الجمعة، محطة التطهير، والتزود، تطهير النفس مما علق بها من الدنس جلاء القلب مما أصابه من الصدأ، محاسبة النفس على ما كسبت ممن خير أو شر، وما نالت من ربح أو خسارة.

صلاة الجمعة، تخلية وتحلية، تفريغ وشحن تخلية وتفريغ لما في العقول والنفوس، والمجتمع والحياة من الخبائث والفساد والأمراض وتحلية وشحن وتعبئة بالبديل الصالح، فهي تجديد للمسلم والمجتمع والحياة، تطهير لخبائث الأسبوع. في صحيح مسلم عن حديث أبي هريرة أنرسول الله  كان يقول : >الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر<.

الختم.

üüüüüüüü

صلاة الجمعة التي تؤدي هذا الدور الخطير في الفرد والمجتمع والحياة، هل تسلم لها الطريق؟ هل يغفل عنها، وتترك لحالها وشأنها؟ كلا، كلا، كلا، أيها الناس، فأعداء الله والدين في الداخل والخارج دائما بالمرصاد يكيدون كيدا، يدبرون، يتآمرون، ينصبون المعوقات في طريق خطبة الجمعة لتعطيلها نهائيا وقتلها، أو إجهاضها.. هذا ما كان، منذ أن كانت خطبة الجمعة، وهذا ما هو كائن اليوم.

في سورة الجمعة يتحدث القرآن عن خصال في اليهود يجب أن يحذرها المسلمون، حملهم التوراة وعدم العمل بها {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها}، وزعمهم أنهم شعب الله المختار، وهم يكرهون الموت {قل يا أىها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين..}.

فما علاقة هذا الحديث بصلاة الجمعة؟ ألم يكن اليهود يعملون بطرق مختلفة لمنع صلاة الجمعة التي يجتمع فيها المؤمنون؟ ألا يكون اليهود بما لهم من نفوذ وتأثير قد نجحوا في جعل المسلمين عندما سمعوا مجيء القافلة تفرقوا، لأن اليهود يعبدون المال والتجارة، وهم يرسخون هذا المنظور؟ وليجعلوا من الجمعة رسما لا أثر له في النفوس؟ {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} فنزل القرآن يصحح المفاهيم والتصورات الخاطئة {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة  والله خير الرازقين} وسورة الصف جاء فها النهي عن أن يقول المؤمنون مالا يفعلون، ويختلف ظاهرهم عن باطنهم {ياأيها الذين آمنوا لمَ تَقُولون مالا تفعلون؟} وهو ما جاء في أول “سورة المنافقون” {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون..}.

عباد الله، أليس التاريخيعيد نفسه اليوم؟ ها هي حياة المسلمين تعود إلى التفكك والانحلال، ها هي أخلاق اليهود والمنافقين تنشر بسرعة وقوة وتتمكن من النفوس.

كم من المسلمين يحملون أسماء إسلامية يحملون القرآن، يحملون الفقه الإسلامي..ولا يعملون عمل الإسلام؟ كم من المسلمين يزعمون ما زعمه اليهود أنهم أولياء الله وأحباؤه؟؟ كم من المسلمين يتمنى لو لم يمت؟ بل علام يدل هذا التهافت على المال والشهوات؟ كم من الأساليب تمارس للقضاء على صلاة الجمعة، أو إبقائها صورة بلا مضمون؟؟ أنواع الأندية والملاهي، إضافة إلى المؤسسات فماذا بقي من صلاة الجمعة.

فنلحذر -عباد الله- أن نكرر التاريخ، أن نكون من المعوقين لرسالة خطبة الجمعة، أمامنا قضايا لا فائدة في طرحها نهائيا، لقد حسمها علماء المسلمين منذ قرون، واستقر عليها العمل في المجتمعات الإسلامية، فلا فائدة من بذل الجهد اليوم لمجرد تحويل المسلم من مذهب معتمد إلى مذهب آخر معتمد.

أمامنا القضايا التي نسميها أخلاقا أو آدابا : آداب الزوج مع زوجه، والابن مع والديه، والجار مع جاره، وآداب الأكل والشرب والنوم واللباس وآداب المسجد… هذه يستحسن أن تعالج بصورة غير مباشرة، تقدم فيها توجيهات عامة، ويبقى العمل والعلاج بالطرق الأخرى المتوفرة أو التي يجب أن تتوفر من الفرد أو من الجماعة.. ويتم توفير الوقت وتركيز الجهد للقضايا الكبرى، أنواع الأيديولوجيات، العولمة الحداثة العلمانية.. وغيرها من أنواع الغزو الفكري الذي يحاول أن يفتت هياكلنا، الدعوة إلى إنهاء التميز بين الذكر والأنثى وإنهاء دور الرجل في الحياة، والقضاء عليه كنوع، وإنهاء الأسرة، وتفكيك روابط المجتمع، وما يمارس على المجتمع من مكر بالليل والنهار، مصير المسلمين في بلدهم وفي قارتهم وفي العالم الإسلامي الخطر النووي، الجوع، عدم التكافل بين الأغنياء والفقراء، الحوار الشمالي الجنوبي… طبقا للقواعد الشرعية في تقديم الأهم والأولى… ارتفعوا وانظروا بعيدا حولكم ترون المشاكل الحقيقية.؟؟ أين أنتم منه؟؟…

ذ.  محمد بوطيب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>