أوراق في قضايا التربية والأسرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ نَاراً} بر الوالدين والعلاقات داخل الأسرة(2)


تحدثنا في العدد السابق عن  موضوع بر الوالدين والحقوق المترتبة في هذا المجال ..والهدف من سردها هو بيان أنه إذا كان بر الوالدين من الأمور الخطيرة التي بلغت هذا المبلغ في التشريع الإسلامي، فإن المسؤولية الكبرى هي تلك الملقاة على الوالدين في مساعدة أبنائهما على تمثل هذه التعاليم  وتطبيقها، وعدم الاقتراب من دائرة العقوق واقتراف المحظور..

وفي هذا العددنتحدث عن حق الأبناء علينا كآباء وأمهات؟

جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق ابنه. فأحضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه وأنَّبه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، فقال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب(أي القرآن)..

فقال الابن: يا أمير المؤمنين لم يفعل شيئا من ذلك: أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جعلا ( جعرانا )، ولم يعلمني من الكتاب حرفا واحداً !!

فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل، وقال له: أجئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعوقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟

ففي هذا النص الحيوي، نستطيع أن نضع أيدينا على أهم ما يجب علينا أن نتمثله مع أبنائنا قبل وبعد مجيئهم !:

ومن الآداب الضرورية التي تجعل النشء مؤهلا لأن يكون بارا بوالديه نورد ما يلي:

< أن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر، فيهلك هلاك الأبد..

< وإذا رأى فيه مخايل التمييز، فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يستحيي، ويترك بعض الأفعال،فليس ذلك إلا إشراق نور العقل عليه حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض، فصار يستحيي من شيء دون شيء، وهذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ، فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه.

< وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام: فينبغي أن يؤدب فيه، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول “بسم الله ” عند أخذه، وأن يأكل مما يليه، وأن يعوده على أن لا يبادر بالطعام قبل غيره، وأن لا يحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي بين اللقم، لا يلطخ يده ولا ثوبه..

< أن يُحبب إليه من الثياب البياض وما كان من الألوان غير الزاهية لكي لا تنشأ عنده نفسية الاستطالة على أقرانه فينشأ نشأة رديء الأخلاق، كذابا، حسودا، سروقا، نماما، لحوحا.

< ثم إذ ظهر من الصبي خلق جميل، فعل محمود، فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى عليه بما يفرح به، ويمدح بين اظهر الناس، فإن خالف ذلك في بغض الأحيان مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك ستره، (لا يعاقب الأبناء على الخطأ من أول مرة) ولا يكاشفه، ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي، واجتهد في إخفائه، فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة، حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانيا، فينبغي أن يعاتب سرا (وأن يكون العقاب في سن يتلاءم ويتفاعل مع هذا اللون من التربية، ومثال على ذلك حديث النبي( >مروا أولادكم بالصلاة..<) ويعظم الأمر فيه، يقال له إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا، وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس..

<  ولا ينبغي لك-أيها الأب- أن تكثر القول بالعتاب في كل حين، فإنه يهون على ابنك سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من  قلبه. ولتكن حافظا لهيبة الكلام معه، فلا توبخه إلا أحيانا، والأم تخوفه بك، وتزجره عن القبائح..

هل التوبيخ أسلوب تربوي؟

فالعبارات التي يردده الكثير من الأباء مثل: ” يا غبي يا أحمق، يا فاشل، أخوك احسن منك، لا ترجى منك فائدة..” ..هل هذه العبارات أسلوب ناجح في تغيير طبائع أبنائنا وبناتنا ؟ !

كثير من أولياء الأمور لا يفعل ذلك كعادة تعود عليها، بل يقوم بها لأنه يعتقد أنها أسلوب ناجح ومحفز لتغيير الطبع.. والواقع يقول غير ذلك، حيث إن التوبيخ من شأنه أن يرسخ في أعماق الأطفال بأنهم يحملون هذه الصفات، مع الوقت يبدأ الطفل أو المراهق بتقمص حقيقي لهذه الصفات فيصبح غبيا أو فاشلا، أو كسولا أو محبطا أو بائسا إلى آخر هذه الصفات التي كان يوصف بها.. والأصل أن يقول الآباء أو الأمهات إن رأوا ضعفا في فهم أبنائهم:” أنت ذكي وممتاز، وحاول أن تجيب على هذه المسألة”..أو يقول له :” خطؤك لم يكن نابعا من غباء، إنما أنت ذكي جدا، ولكنك لم تركز، وكل ما في الأمر قليل من التركيز”..

أو يقول له حين يخطئ في التعامل مع الآخرين: “الإنسان الناجح هو الذي يستفيد من خطئه في الصواب، وأنت مؤدب، وخلوق، ومحبوب، ومن كانت فيه هذه الصفات سهل عليه أن يتخلق بالخلق الفلاني..” وهكذا يغرس أولياء الأمور صفات الخير ويعمقونها في نفوس أبنائهم حتى تكون طبعا فيهم وسجية من سجاياهم..

< وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله خيفة، فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح، فإذا تعوَّد، ترك فعل القبيح.

< وينبغي أن يمنع عن النوم الطويل نهارا-إلا ما كان من قبيل القيلولة- فإنه يورث الكسل، ولا يمنع منه ليلا، ويعود على الخشونة في المفرش بقدر الإمكان.. كما يعود في بعض النهار على المشي والحركة حتى لا يغلب عليه الكسل، ويُعوَّد أن لا يكشف أطرافه، و لا يسرع المشي، ولا يرخي يديه.

< وينبغي أن يعود على الرياضة البدنية في بعض أيام الأسبوع.. وهذا يتطلب وجود القدوة أمام الطفل من لدن والده على الأقل..

< ويمنع من أن يفخر على أقرانه بشيء مما يملكه والده، أو بشيء من مطاعمه وملابسه أو محفظته وأدواته..بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره، والتلطف في الكلام معهم.. كما يمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئا بطريق الحيلة، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء، والدناءة في الأخذ إن كان الأخذ من أولاد الأغنياء، وإلا فهو لؤم وخسة ودناءة، وإن كان الأخذ من أولاد الفقراء فيعلم أن ذلك من الطمع والمهانة والذلة..

< وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه، ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره فاتحا فمه بل يضع يده اليمنى على فيه، وألا يستدبر غيره(أي لا يعطيه ظهره بل يستقبله بوجهه)، ولا يضع رجلا على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده، فإن ذلك دليل الكسل..

< ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة، أنه فعل أبناء اللئام، ويمنع من الحلف رأسا، صادقا أو كاذبا، حتى لا يعتاد ذلك من الصغر.

< ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود أن يتكلم إلا جوابا وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع إذا تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا أو علما، ويوسع له المكان، و يجلس بين يديه.

< وينبغي أن يتعلم الهدوء وخفض الصوت واحترام الكبير والحياء من الضيف، ويتعلم السلام على الناس ورده على من سلم عليه. وفي هذا الصدد لا بد أن نشير إلى أن هناك فهما خاطئا لبعض الأخلاق الإسلامية، والتي لا تعدو سوى عادات ورثها الآباء على شكل أنماط خاطئة لا تمت إلى خلق الدين بصلة.. والحديث هنا عن مفهوم (احترام الكبار).. فهم من أجل ترسيخ هذا الأمر يسلكون طرقا تؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة من الناحية التربوية، وتنتج شخصيات مهزوزة، ضعيفة، ومترددة، غير واثقة من نفسها، ولا تستطيع القرار وتفضل أن يقرر الآخرون لها..

هل سأل أحد منا نفسه يوما من الأيام عن سبب خجله من التحدث أمام الناس قلُّوا أم كثروا؟ ولماذا لا يستطيع ابنه أو ابنته أيضا التحدث أمام أصدقائهم في المدرسة؟ في الوقت الذي نرى جميعا أبناء الغرب، خاصة من درس في الغرب، وهم يملكون الجرأة في التحدث أمام الناس الغرباء وفي مدارسهم، وفي التجمعات والبشرية. فالواجب أن نفتح المجال لأبنائنا للتعبير عما يخالج نفوسهم وبسطها أمامنا وعدم تركها مغمورة في شعورهم.. فالاستماع لهم يعتبر من أعلى درجات التقدير، وللاستماع شروط وآداب لا يمكن أن يكون فعالا من غيرها، وأهم هذه الآداب:

- النظر إلى وجه الطفل أو الابن وهو يتكلم، وعدم الالتفات عنه إلى أمور أخرى، فإن ذلك يترك لديه انطباعا بعدم اهتمامك بما يقول.

- إبداء التفاعل في قسمات الوجه، وباقي الجوارح من غير تكلف لما يقول، لإيصال رسالة له بتقديرك له، وتأثرك بما يقول.

- عدم مقاطعته أثناء الحديث وترك الفرصة كاملة له للانتهاء مما يقول، إن كان ما يقوله تافها أو لا يدخل في دائرة اهتمامك، ولكنه بالنسبة له يعتبر قضيته الرئيسية، فهو قد يحكي ما جرى له في المدرسة، أو ما وقع له مع أصدقائه أثناء اللعب.. وكل هذا من الأمور التي تجعلك تأخذ “تقريرا” عن حياة ولدك أثناء ذلك اليوم، مما سيساعدك على فهم شخصية ابنك عن كثب ومعالجة ما قد تراه غير صحيح.

- مشاركته بوضع الحلول لهذه المشكلة، أو القضية، وإثارة بعض الاستيضاحات والتساؤلات معه ليشعر باهتمامك  بموضوع الحديث.

< ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن السب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء.

< وينبغي له أن يؤذن له بعد الانصراف من الدراسة، أن يلعب لعبا جميلا، ويستريح إليه من تعب المكتب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب، وإرهاقه إلى التعلم دائما يميت قلبه ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش،حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا.

ويفرح الأبناء كثيرا، وخاصة الأطفال منهم عند رؤيتهم والديهم يلعبون معهم، يعتبرون ذلك جزء من عملية التقدير، ويتألمون عندما يلاحظون اللامبالاة من والديهم باللعب معهم، ويعتبرون ذلك جزءا من عدم الاهتمام والتقدير.. لذلك تجد الحماسة الكبيرة من أحدهم عندما يقول له الأب -كَلَوْنٍ من الثواب-:” إذا ذاكرت دروسك جيدا وانتهيت من ذلك قبل موعد النوم فسألعب معك اللعبة الفلانية”..

< وينبغي أن يُعلم طاعة والديه ومعلمه ومن يؤدبه، وكل من هو أكبر منه سنا، من قريب وأجنبي، وأن ينظر إليهم بعين الاحترام والتقدير وأن يترك اللعب بين أيديهم.

< وإذا بلغ سن التمييز، فينبغي أن لا يُسامَح في ترك الطهارة والصلاة على نحو ما ذكر سابقا، كما أنه يؤمرأن يصوم بعض أيام شهر رمضان..

< وينبغي أن يعلم الاستئذان. كما يشير قوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال الحلم منكم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم..}(النور59]، والاستئذان ثلاث عورات: قبل صلاة الفجر وعند وضع الثياب من الظهيرة، وبعد صلاة العشاء .

< كما أنه من الواجب أن نعدل بين الأولاد في العطاء حتى نجنبهم الحسد والتباغض والعداء.. ولا يجب أن يستهين الآباء في هذه المسألة ولو كان العطاء هو قبلة !.. إذ ولا شك أن تقبيل، الأبناء من ألوان الثواب المحببة لديهم، وهو رسالة عملية بارزة عن التقدير والحب، وهي عند الطفل أحب إليه من كثير من ألوان المكافآت، لأنها تعني حبه من قبل من يقبله، لقيامه بعمل صائب..

يكتبها في حلقات

ذ. أبو يونس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>