المفهوم المحرف للزهد سهم أصاب كيان الأمة في الصميم


المفهوم المحرف للزهد

سهم أصاب كيان الأمة في الصميم

محمد بن شنوف

عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله دلني على عمل اذا عملته احبني الله واحبني الناس فقال : >ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس< حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره باسانيد حسنة.

أهمية هذا الحديث : تأتي أهمية هذا الحديث من كونه أحد الاحاديث التي عليها مدار الاسلام وتشكل اصول السنن ففي رواية عن أبي داود أنه قال : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث جمعها بعضهم في قوله :

عُمْدَة الدِّين عنْدنا كَلِمَاتٌ  #  مُسْنَدَاتٌ مِنْ كَلاَمِ خَيْرِ البَرِيَّة

اتَّقِ الشُّبُهَاتِ وازْهَدْ وَدَعْ مَا #  لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بِنِيَّة

وقد اشتمل الحديث على وصيتين عظيمتين، احداهما : الزهد في الدنيا ويقتضي محبة الله تعالى لعبده.

والثانية الزهد فيما في ايدي الناس فإنه يغرس المحبة بين الناس. فما معنى الزهد؟

مفهوم الزهد :

الزهد في الشيء الاعراض عنه لا ستقلاله (من القلة) واحتقاره وارتفاع الهمة عنه يقال شيئ زهيد أي قليل حقير كقلة ثمن بيع يوسف عليه السلام : >وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين< يوسف/20 وقد اختلفت مواقف علماء الامة سلِفها وخلفها من تفسير الزهد في الدنيا ونريد أن نقف معك من خلال هذا الحديث على رأي المتصوفة والفقهاء والمحدثين في هذا الموضوع

أولا : زهد المتصوفة : نقتصر في هذا المجال على ماجاء في الإحياء يقول الامام الغزالي : الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه… ويستدعي حال الزهد مرغوباً عنه ومرغوباً فيه هو خير من المرغوب عنه… فالزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا عدولاً الى الآخرة… وان تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالاضافة الى نفاسة الآخرة.

والزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبْح اسم ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفاً من ان يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحباً لما سوى الله ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره< (انظر الاحياء ج 4 ص : 230 ) وما بعدها بتصرف. ويضيف قائلا : يكاد يخرج ما فيه الزهد عن الحصر، وقد ذكر الله تعالى في آية واحدة سبعة منها فقال : >زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا< آل عمران/14. ثم رده في آية اخرى الى خمسة فقال عز وجل : >اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد< الحديد/20

ثم رده في موضع آخر الى اثنين فقال تعالى : >إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولَهْوٌ< محمد/36.

ثم رد الكل الى واحد في موضع آخر فقال : >ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى< النازعات 40-41.

فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس في الدنيا فينبغي أن يكون الزهد فيه. وينتهي الى النتجية التالية : فالحاصل ان الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلها، ومهما رغب عن حظوظ النفس رغب عن البقاء في الدنيا فقصر أمله لا محالة، لانه انما يريد البقاء ليتمتع ويريد التمتع الدائم بارادة البقاء<(ج : 4 ص : 241). وبذلك تعلم ان الزهد عند المتصوفة هو ترك الدنياجملة وتفصيلا.

ثانيا : زهد الفقهاء والمحدثين : يقول الامام أحمد : الزهد في الدنيا قصر الامل، وقال مرة قصر الامل واليأس مما في أيدي الناس، ووجه هذا أن قصر الامل يوجب محبة الله ولقاءه والخروج من الدنيا، وطول الامل يقتضي محبة البقاء فيها. واستُدل لهذا بقوله تعالى : >قل ان كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين ولن يتمنوه ابداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة< البقرة/94-95. ويقول الامام الزهري : الزاهد من لم يغلب الحرام صبره ولم يشغل الحلال شكره، والمعنى ان الزاهد في الدنيا اذا قدر منها على حرام صبر عليه فلم يأخذه واذا حصل له منها حلال لم يشغله عن الشكر بل قام بشكر الله عليه. ويقول سفيان بن عيينة : الزاهد من اذا انعم عليه شكر واذا ابتلى صبر. أي من لم تمنعه النعماء من الشكر ولا البلوى من الصبر: فهو من الزاهدين.(انظر في هذه التعاريف جامع العلوم والحكم ص:254). ونختم رأيهم في ذلك بما قالهَ الامام القرطبي في الجامع : >وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم : قصر الأمل وليس بأكْل الخَشِين ولُبْسِ العَبَاء؛ قاله سفيان الثوري قال علماؤنا : وصدق رضي الله! فان من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا  يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تَيَسَّر، واجتزأ منها بما يُبَلِّغُ< ج : 10 ص : 355.

وبذلك تعلم ان موقف الفقهاء والمحدثين من الزهد هو طلب الحلال بحقه واداء حق الله فيه والشكر على النعمة والصبر على البلاء والتزود من دار الفناء لدار البقاء باعتدال وقوام. في المأكل والمشرب والملبس والاختلاط… والتوسط بين النزعة المادية والنزعة الروحية.

ذَمُّ المَسْألة : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : >وازهد فيما عند الناس يحبك الناس< فهو أمر صريح بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عما في ايديهم، وعدم التطلع والتشوق الى ما عندهم من جاه ومال ومتاع طمعاً للنيل منه ومنافستهم فيه لان ذلك يوجب كراهتهم وبُغْضهم لمن ينازعهم فيما يحبون. وقد جاء التنبيه على سوء حالة من يسأل الناس الحافاً في سياق مدح أهل الصُّفَّة المتعففين عن السؤال : >للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافاً< البقرة/273. وفي هذا المعنى جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكيم بن حِزَامٍ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فاعطاني ثم سألته فاعطاني ثم قال ياحكيم : ان هذا المال خَضِرٌ حُلْوٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن اخذه بإشراف نفس لم يبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى (رواه البخاري) ومسلم. ولكثرة ما ورد النهي عن سؤال الناس، والتعويل عليهم كان بعض الصحابة يسقط سوطه وهو راكب فينزل ويأخذه كراهية ان يستعين باحد فيما لا حاجة بالتعاون فيه. قال الشاعر :

وانما رجل الدنيا وواحدها   #   من لا يعول في الدنيا على رجل.

والتماس المال واكتسابه مع معرفة حق الله فيه، وجعله وسيلة يتقرب بها الى الله خير من الانقطاع للعبادة وملازمة المساجد والمدارس للصلاة وطلب العلم مع التقصير في طلب العيش الذي هو فريضة على المسلم بعد الفريضة وكل من الافراط والتفريط مذموم. (انظر البيحاني في اصلاح المجتمع ص : 22).

موقف الناس من الحياة الدنيا : لقد انقسم الناس في موقفهم من الحياة الدنيا وتحديد علاقاتهم بها الى قسمين كبيرين :

أولهما : قسم انكر أن يكون للعبادة دار للثواب والعقاب بعد الحياة الدنيا وهؤلاء هم الذين قالوا ويقولون نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر.وأخبر الله عن تعلقهم بالحياة الدنيا في عدد من الآيات القرآنية : >والذين كفروا يتمتعون وياكلون كما تاكل الانعام والنار مثوى لهم< محمد/12. وهذا الفريق لا هم له الا اقتناص الشهوات والنزوات واغتنام فرص الملذات قبل ان تحين الوفاة : >ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون اولائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون< يونس/8

وثانيهما : من يقر بوجود دار للثواب والعقاب بعد الموت وهم المنتسبون الى شرائع المرسلين وهذا الفريق ينقسم بدوره الى ثلاث فئآت حسب تصنيف العليم الخبير >ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله< فاطر/32/ :

1- الظالم لنفسه هم الاكثرون منهم واكثرهم واقف مع زهرة الحياة الدنيا وزينتها. فأخذها من غير وجهها واستعملها في غير وجهها وصارت الدنيا أكبر همه بها يرضى وعليها يغضب ولها يوالي ومن أجلها يعادي، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا وانها منزلة سفر يتزود منها لما بعدها من دار الاقامة.

2- المقتصد منهم : اخذ الدنيا من وجوهها المباحة وأدى واجباتها وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا. وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهاد في الدنيا ولا عقاب عليهم في ذلك الا انه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا ويقال لهم >أذهبتم طيباتكم في الحياة الدينا واستمتعم بها< الاحقاف/20

3- واما السابق بالخيرات باذن الله فهم : الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضى ذلك. فعلموا أن الله إنما أسكن عبادهُ في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملا. كما قال تعالى : >إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا< الكهف 7 أي ايهم أزهد في الدنيا وارغب في الآخرة. ثم بين بعدها انقطاع الزينة ونفادها فقال : >وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا< الكهف/8 فلما فهموا ان هذا هو المراد من الدنيا جعلوا همهم هو التزود منها للآخرة التي هي دار القرار فاكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره. >انظر جامع العلوم والحكم ص : 257<

وأهل هذه الدرجة على قسمين :

أ- قسم اقتصر من الدنيا على ما يسد الرمق فقط وهو حال كثير من الزهاد.

ب- وقسم سمح لنفسه احيانا في تناول بعض الشهوات المباحة لتقوى النفس بذلك وتنشط للعمل كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : >حبب الي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة< (خرجه الامام أحمد والنسائي من حديث أنس).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : >كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب من الدنيا : النساء والطيب والطعام فأصاب من النساء والطيب ولم يصب من الطعام<(خرجه الامام أحمد).

خاتمة : والذي نخلص اليه من شرحنا لهذا الحديث هو أن الاسلام مع دعوته الى العمل والسعي وراء الدنيا وعدم تحريم طيبات ما أحل الله >قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة< الاعراف 32. دعا كذلك الى الاعراض عن هذه الحياة الدنيا والاقبال على الآخرة بالترغيب والترهيب : >ياايها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولائك هم الخاسرون< المنافقون/9 والى جانب هذا وذاك دعا الى الوسطية والاعتدال بين الاخذ من هذه والاقبال على تلك.> وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا<القصص 77.والوسيطة والاعتدال أخص صفات الدين الإسلامي.ولذلك فإن القرآن لم يصرح بالزهد كمذهب بل اعتبره سلوكا عمليا قائما على معنى التقوى والخوف من الله والتوكل عليه والاكثار من ذكره، وكذلك فان الحياة الروحية للرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن حياة تصوف أو رهبانية بل كانت حياة زهد معتدل قائم على التخلق باخلاق القرآن. ولنا في الرسول الاسوة الحسنة، فمما لا شك فيه ان ما يعاني منه العالم الاسلامي اليوم هو ناتج عن المفهوم المحرف والمشوه لمعنى الزهد عندما جنح به فريق من المسلمين الى الانعزال والانطواء على الذات وتركوا الساحة فارغة امام من سنحت لهم الفرصة للتحكم في رقاب المسلمين في عهود الاستعمارا وما بعد الاستعمار، وهذا التحكم ما هو الا ضريبة الانحراف عن منهج الله والجهل بسنن الله في الكون، ولذلك فان موقف الامام الغزالي من الاعراض عن واجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عند ما قال : >من جرب الامر بالمعروف ندم عليه غلبا فانه كجدار مائل يريد الانسان ان يقيمه فيوشك ان يسقط عليه، فاذا سقط عليه يقول ياليتني تركته مائلا، نعم لو وجد أعوانا امسكوا الحائط حتى يحكمه بدعامة لاستقام، وانت اليوم لا تجد الاعوان فدعهم وانج بنفسك< الاحياء ج 2 ص : 250. هو موقف لم يرض جمهور المسلمين الذين يعلمون ان هذا الواجب هو من اساسيات الاسلام. والذي عبر عنه الامام الطبري بقوله : >لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما اقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا الى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بان يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون ايديهم عنهم وذلك مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : >خذوا على ايدي سفهائكم<انظر القرطبي في الجامع ج16/ 317.

والتاريخ الاسلامي شاهد على ان الانحراف نحو حياة الترف والبذخ واللهو والمجون… أو نحو الاعراض والترك والمسكنة والدروشة هما السهمان اللذان أصابا جسم الامة الاسلامية في الصميم ولا زال هذا الجسم ينزف دماً من آثارهما، وما لم يبادر المسلمون الى تضميد هذه الجراح لايقاف هذا النزيف فان نفاد الدم هلاك محقق. >وعد الله الذين ءآمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فاولائك هم الفاسقون< النور/55

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>