افتتاحية سرطان الجاهلية


سرطان الجاهلية

لَيْسَ للجاهليَّة تاريخٌ معيَّن تبدأُ منْهُ، وتاريخٌ معَيَّن تنتهي عندهُ، لأنَّهَا ليستْ عِبَارةً عن فَتْرَةِ حُكْمٍ سياسيٍّ لدَوْلَةٍ، أو عُنْصُرٍ، أو أُسْرَةٍ، أو جِنْسٍ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ -بالضَّرُورةِ- من مَفَاهِيمَ، وتَصَوُّرَاتٍ للدُّنْيَا والكَوْنِ، والحَيَاةِ والإِنْسَانِ،… …وَلَيْسَتْ عبارةً عن فلسفَةٍ سَادَتْ أفكارُهاَ زَمَناً مَا…ثم بَادَتْ فليْسَ للْجَاهِلِيَّةِ فلسفةٌ مُحدَّدَةٌ تَحْدِيداً فِكْرِيّاً أو خُلُقِيّاً، يُدْرَكُ في أَعْصُرٍ وأَزْمَانٍ خَاصَّةٍ، لاَيُدْرَكُ فِيمَا قَبْلَهاَ، ولاَ فِيمَا بَعْدَهَا.

وَلَكنَّ الجاهليةَ -بكلِّ بساطةٍ- عِبَارَةٌ عن كُلِّ عقيدةٍ تُخالفُ عقيدةَ الإسلامِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عن زَمَانِهَا ومَكَانِهَا. وعِبارةٌ عن كُلِّ تشريعٍ يُخَالِفُ تشريعَ الإسْلاَمِ في نَصِّهِ وَرُوحِهِ وتَوَجُّهِهِ. وَعِبَارَةٌ عنْ كُلِّ خُلُقٍ يُخَالٍفٌ أَخْلاَقَ الإسْلاَمِ في مَظَاهِرِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَخَلْفِيَّاتِهَا. وعِبَارَةٌ عن كلِّ نِظْرةٍ للدُّنْيَا والمَالِ تُخَالِفُ نِظْرَةَ الإسْلاَمِ إِلَيْهِمَا، لاَ كَسْباً ولاَ انْتِفاعاً، ولاتخطيطاً للتَّنمِيَّةِ والاسْتِثْمَارِ. وعِبَارَةٌ عن كُلِّ نِظرةٍ للإنْسَانِ تُخَالِفُ النِّظْرَةَ الإسْلاَمِيَّةِ اليه تكريماً واعْترافاً لهُ بحقِّ تَقْرِيرِ المَصِير، واخْتِيَارِ المَآلِ وهِي -باخْتصَارٍ- عبارةٌ عن كلِّ مَا يُصَادِمُ الإسْلاَمَ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ سواءٌ ظَهَرَ هَذَا الصِّدَام في مَبْدإٍ كَبِيرٍ من مَبَادِئ الإسلاَمِ، كَتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وإِقَامَةِ العَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ العَمَلِيَّةِ، أو النِّظَامِيَّةِ، والمَنْهَجِيَّةِ…كُل ذلك سواء، فللجاهليةِ تَوَجُّهَاتُهَا في نُظُمِهَا ومَنَاهِجِهَا، ولِلإسْلاَمِ تَوَجُّهَاتُهُ الخاصَّةُ بِهِ في كُلِّ ذَلِكَ… وَلاَ لِقَاءَ بَيْنَهُمَا في نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ولاَ تَصَالُحَ، >لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين< (سورة الكافرون]

وهَكَذَا فَالجَاهِلِيَّةُ في العَقِيدَةِ تَظْهَرُ في صور شتى أبرزها : تألِيهِ البَشَرِ، والخَوْفِ مِنْهُ، وتَحْكِيمِ قَانُونِهِ، وَتَفْضِيلِهِ عَلى قانون اللَّهِ تعالى وشَرْعِهِ، والجاهِلِيَّةُ في النِّظرةِ، تَظْهَرُ في اعتبارِ الدُّنْيَا غَايَةَ الغَايَاتِ، وأوْلَى الأَوْلَوِيَّاتِ، ولاَ شَيْءَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمُسْتَزِيدٍ، والجاهليةُ في الأَخْلاَقِ تظْهَرُ في العَمَلِ عَلى تَمْيِيعِ الإنْسَانِ، وإغْرائِهِ بالهُبُوطِ إِلَى أَقَلَّ مِنْ مُسْتَوَيَاتِ البَهَائِمِ العَجْمَاءِ، لإِبْرَازِ حَيَوانِيَّةِ الإنْسَانِ، وطَرْدِ إِنْسَانِيَّةِ الإِنْسَانِ وفِطْرَتِهِ التي بِهَا كَانَ مُسْتَخْلَفاً في الأرضِ.

والجَاهليةُ في الذَّوْقِ تَظْهَرُ في الذَّوْقِ البِدَائِيِّ الغَلِيظِ المَفْتُونِ بِالجَسَدِ العَارِي للْمَرْأَةِ والدَّعْوَةِ الصَّارِخَةِ للْعُهْرِ والدَّعَارَةِ، وفِي التَّلَذُّذِ بَأَكْلِ لُحُومِ المُسْلِمِينَ، وسَمَاعِ أَنِينِهِمْ، وفِي الإِعْجَابِ بِتَشْوِيهِ سُمْعَتِهِمْ، وَكَيْلِ التُّهَمِ لَهُمْ.

إن الجاهليةَ سَرَطَانٌ خَبِيثٌ يَكْرَهُ النُّورَ، ويَخَافُ مِن الإسْتِقَامَةِ والطُّهْرِ والعِفَّةِ، ويَمْقُتُ حِشْمَةَ المرأةِ وتَصَوُّنَهَا وتَعَفُّنَهَا، ويُبْغِضُ كُلَّ مَايَدْعُو الى التحكُّمِ في الشَّهَوَاتِ الجَامِحَةِ وَ ضَبْطِهَا بِمِيزَانِ الإسْلاَمِ،… ولاَ عِلاَجَ لِلأُمَّةِ مِن هَذَا المَرَضِ المُسْتَشْرِي إِلاَّ بِحُقَنِ الإِيمَانِ، وَقُوَى التَّلاَحُمِ، وتجْدِيدِ أسَالِيبِ الدَّعْوَةِ وَوَسَائِلِ العِلاَجِ وَالمُوَاجَهَةِ، والهُجُومِ المُبَاشِرِ على مَكَامِنِ الدَّاءِ بِكَافَّةِ الأَسْلِحَةِ الإِعْلاَمِيَّةِ التِي يُتِيحُهَا العَصْرُ حَتَّى لاَ نَغْرَقَ فِي مُسْتَنْقَعَاتِ التَّفْسِيدِ وَالتَّمْسِيخِ، فَإِنَّ النَّاسَ لِحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَلِمُخَطَّطَاتِهِ مُسْتَرِيحُونَ، ولَوْ كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُمْ الى الخَسَارَةِ يُجَرُّونَ..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>