الشرك أعظمُ جَريمة، و الإخلاصُ أعظمُ أمانٍ من خِزْيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.


الشرك أعظمُ جَريمة، و الإخلاصُ أعظمُ أمانٍ من خِزْيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.

قال الله عزوجل : >ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَالذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ، وَلَوْ تَرَى الذِين ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ< البقرة 165.

التفسير :

1) القارئون الكون باسم المادة والقارئون له باسم رَبِّ المادة :

نَزَلَ قَولُ الله تعالى : >وَإِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ< فقال كفار قريش كما ذكرت بعض التفاسير : (كيفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ واحِدٌ؟؟ أو، إِن كَانَ هَكَذَا فَلْيَأتَنَا بِآيةٍ) فأنزل الله تعالى >إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الاَرْضِ وَ اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ َ الْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَرِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الاَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ<. فهذه الآيةُ نَزلَتْ لتُقْنِع قريشاً وغيرَهُم من كُفَّارِ الدنيا قديماً وحَديثاً بِأن اللَّهَ الذِي وسِعَ مُلْكُهُ ورِعَايَتُهُ، السَّماواتِ والارْضِ وَمَافِيهِمَا، لَقَادرٌ عَلَى أنْ يَسَعَ النَّاسَ جَمِيعاً بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ منَ التَّدْبِيرِ، والرَّحْمَةِ، واللُّطْفِ، والْهِدَايَةِ، والمُرَاقَبَةِ بِدُونِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى مُسَاعِدٍ، أو نِدٍّ، أو شَرِيكٍ، أو شَفِيعٍ.

وَكَيْفَ يَكُونُ الذِي اسْتَقَلَّ بِخَلْقِ الكَوْنِ، واسْتَقَلَّ بِتَصْرِيفِ حَرَكَاتِهِ الْمُتَوَازِنَةِ بِشَكْلٍ عَجِيبٍ، واسْتَقَلَّ بِبَثِّ الْحَيَاةِ فِي كُلِّ حَبَّةٍ، ونَوَاةٍ، و دَابَّةٍ، و نُطْفَة… عَاجِزاً عَنِ الإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَا يُصْلِحُ أَحْوَالَ الإِنْسَانِ، وعَاجِزاً عَنِ الاسْتِقْلاَلِ الْمُطْلَقِ بِتَوْفِيرِ كُلِّ الأَسَاسِيَاتِ التِي تَقُومُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الإِنْسَانِ المَادِّيَّةِ وَ المَعْنَوِيَّةِ، مِن رِزْقٍ، وَ أَمْنٍ، وَتَشْرِيعٍ، وَ إِرْشَادٍ لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، وَ تَحْذِيرٍ مِن المَزَالِقِ، وَ رَدْعٍ لِلْكِبْرِ وَ الْغُرُورِ، وَ فَتْحٍ لأَبْوَابِ الأَمَلِ وَ الرَّجَاءِ، الَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُقَوِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الإِنْسَانِ المَادِّيَةِ، والنَّفْسِيَّةِ، و الشُّعُورِيَّةِ، و الرُّوحِيَّةِ.

وإذا كان لايُوجَدُ -لحد الآن- من يقول بأدِلَّةٍ قَاطِعَة : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْفَرِدْ بِخَلْقِ الكَوْنِ كُلِّه، وَ لَمْ يَنْفَرِدْ بتدْبير شُؤُونِهِ -إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ شَوَاذِّ الفِطْرَةِ من الشُّيُّوعِيِّين الذين أَنْكَرُوا وُجُودَ اللَّهِ تعالى نِهَائِيّاً، فَلَفَظَتْهُم الحَيَاةُ، وانْدَثَرُوا أوكَادُوا مِن الوُجُودِ- فإنَّ الذِي وُجِدَ فِعْلاً قَدِيماً وَ حَدِيثاً هُوَ الإشْرَاكُ مَعَ اللَّهِ فِي العِبَادَةِ، وَمُنَازَعَتُه في التَّفَرُّدِ بِحَقِّ الأُلُوهِيَّةِ وَحْدَهُ، أَيْ حَقِّ الأَمْرِ والنَّهْيِ، والتَّشْرِيعِ، وَ الطَّاعَةِ، والخُضُوعِ… حَيْثُ قَالَ المُشْرِكُونَ القُدَمَاءُ >أَجَعَل الآلهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ<سورة ص]. فَأنْكَرُوا اخْتِصَاصَ اللَّهِ تَعَالَى بِحَقِّ العُبُوديَّةِ. أمَّا المُشْرِكُونَ الْمُحْدَثُونَ فَقَدْ جَعَلُوا للَّهِ تعالى أنْداداً وَ أَصْنَاماً تُنَاسِبُ العَصْرَ، مِن حِزْبٍ عِلْمَانِيٍّ ، وَمَذْهَبٍ مَادِيٍّ، ونِظَامٍ إِلْحَادِيٍّ، وَقَانُونٍ وَضْعِيٍّ يُبِيحُ المُحَرَّمَاتِ… وَجَعَلُوا طَاعَتَهَا فَوْقَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى الكَوْنِ نَظْرَةً مَادِّيَّةً صِرْفَةً، لَيْسَتْ لَهُمْ بَصِيرَةٌ يَخْتَرِقُونَ بِهَا مَا وَرَاءَ هَذَا الْكَوْنِ مِنْ تَدْبِيرٍ إِلَهِيٍّ مُحْكَمٍ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَالعِرْفَانَ.

أَمَّا الذِينَ يَنْظُرُونَ إلَى الْكَوْنِ نَظْرَةً إيمَانِيَّةً، فإنَّهُمْ يَقْرَأُونَهُ بِاسْمِ رَبِّهِمْ وَيَقُولُونَ : >رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ<سورة آل عمران] وشَتَّانَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالتَّوَجُّهَيْنِ، وَ النَّتِيجَتَيْنِ، وَ المَصِيرَيْنِ!!

2) مَنْزِلَةُ الصَّنَمِ النِّدِّ للهِ تعالى في قُلُوبِ مُحِبِّيهِ :

قال ابنُ القيِّم رحمهُ الله تعالى في (شرح المنازل) في باب التَّوْبَةِ : >أمَّا الشرْكُ فَهُوَ نَوْعَانِ : أكْبَرُ وَ أَصْغَرُ. فالأكُبَرُ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلاَّ بالتَّوْبَةِ، وَهُوَ أن يَتَّخِذَ المُشْرِكُ مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدّاً يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ تَعالى، وَهُوَ الشِّرْكُ الذي تَضَمَّنَ تَسْوِيَةَ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ بِرِبِّ الْعَالَمِين، في المَحَبَّةِ، وَ التَّعْظِيمِ، وَ العِبَادَةِ، كَما هُوَ حَالُ أَكْثَرِ مُشْرِكِي العَالَم، فَكُلُّهُمْ يُحِبُّونَ مَعْبُودِيهِم وَ يُعَظِّمُونَهَا وَ يُوَادُّونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعالى، بَلْ أَكْثَرُهُمْ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ أَعْظَمَ مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ تعالى، يَسْتَبْشِرُونَ بِذِكْرِهِم أَعْظَمَ مِن اسْتِبْشَارِهِمْ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تعالى، وَ يَغْضَبُونَ بِتَنَقُّصِ مَعْبُودِهِم مِنَ المَشَايِخِ أَعْظَمُ مِمَّا يَغْضَبُونَ إِذَا انْتَقَصَ أَحَدٌ رَبَّ العَالَمِينَ<محاسن التأويل 3-4/19].

وقال القاسمي في محَاسن التَّاويل : >وَ الأَنْدَادُ هِيَ : إِمَّا الأَوْثَانُ التِي اتَّخَذُوا لَهَا النُّذُورُ، وَ قَرَّبُوا لَهَا القَرَابِين، وَ إِمَّا الرُّؤَسَاءُ الذِينَ يَتَّبِعُونَهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ وَ مَا يَذَرُونَ، وَ لاَسِيَمَا في الأَوَامِرِ وَ النَّوَاهِي، وَ رُجِّحَ هَذَا، لأَنَّهُ تعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الآية >إِذْ تَبَرَّأَ الذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الذِين اتَّبَعُوا< وَ ذَلِكَ لاَ يَلِيقُ إِلاَّ بِمَنْ اتَّخَذَ الرِّجَالَ أَنْدَاداً وَ أَمْثَالاً للَّهِ تَعَالى يَلْتَزِمُونَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَ الاِنْقِيَادِ لَهُمْ مَا يَلْتَزِمُهُ المُومِنُون مِن الاِنْقِيَادِ للَّهِ تَعالى. >والذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ< مِنَ المُشْرِكِين لأَنْدَادِهِمْ، لأَنَّ أُولَئِكَ أَشْرَكُوا فِي المحبَّةِ، وَالمُومِنُونَ أَخْلَصُوهَا كُلُّهَا للَّهِ<3-4/19-20].

وَمَحَبَّةُ الأنْدَادِ وَ الأَصْنَامِ دَفَعَتْ أَتْبَاعَهَا إِلَى إِعْلاَنِ الْحَرْبِ عَلى الأَنْبِيَاءِ وَ المُومِنِين، فَقَدْ أَلْقَوْا بِإبْراهيم عليه السّلام في النَّارِ، لَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا بَرْداً وَ سَلاَماً عَلَيْهِ، وَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَخْرَجُوا الرّسُول صلى الله عليه وسلم مِن مَكَّةَ، وَ تَآمَرُوا عَلى قَتْلِهِ، لَوْلاَ أَنَّ اللَّه تعالى أَنْجَاهُ، وَ التَّعَلُّقُ بِهَوَى السُّلْطَةِ مَزَّقَ الأُمَّةَ الإسْلامِيَّةَ وَ جَعَلَ كَلِمَتَهَا مُشَتَّتَةً، وَ الْخُضُوعُ للِشَّرْعِيَّةِ الدَّوْلِيَةِ الكَافِرَةِ جَعَلَ أَتْبَاعَ وَ عُمَلاَءِ القُوَّةِ الكُبْرَى يَضْرِبُونَ المُسْلِمِينَ لِيَنَالُوا فُتَاتَ الْمُسَاعَدَاتِ الْمَشْرُوطَةِ وَ يَضْمَنُوا لأَنْفُسِهِم الْوِقَايَةَ مِنْ غَضْبَةِ الكُبَرَاءِ المُؤَلَّهِينَ.

3) منزلة الله تعالى في قلوب المومنين :

المَحْبُوبَاتُ التِي يُحِبُّهَا الإنْسَانُ في هَذِهِ الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، وَ لَكِنَّهَا لاَ تَخْرُج عَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالى في سورة آل عمران > زُيِّنَ للِنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ البَنِينَ وَ القَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ…< وَ هِي تُختصَرُ في حُبِّ العَائِلةِ، وَ حُبِّ المال بِجَميعِ أَصْنَافِهِ، وَ مَا يَتْبَعُ ذَلِِكَ من شَهَوَاتِ الرِّئَاسَةِ وَ السَّيْطَرَةِ لِضَمَانِ الاِسْتِئْثَارِ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا، فَهِيَ وَ حْدَهَا مَحَلَّ التَّنَازُعِ والتَّنَافُسِ، لأنَّ خَيْراتِ الدُّنْيَا هِي غَايَةُ ما تَطْمَحُ إِلَيْهِ أَنْظَارُ الْكَافِرينَ بالآخِرَةِ وَ نَعيمِهَا، فَلاَ غَايَةَ لَهُمْ دُونَهَا، وهُم لِذَلِكَ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهَا، و يُضَحُّونَ في سَبِيلها بِكُلِّ غَالٍ و رَخِيصٍ.

أما المومنون باللَّهِ وَ اليَوْمِ الآخِرِ فَيَنْظُرُونَ إلى الدُّنْيا على أَنَّهَا وَ سَائِلٌ لا غَايَاتٌ، وَ لِذَلِكَ يُحِبُّونَهَا مَحَبَّةَ الْوَسِيلَةِ المُوصِلَةِ الى مَرْضَاةِ اللهِ تعالى، وَ نَيْلِ شَرَفِ الْعُبُودِيَةِ لَهُ، بِأَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهم، وَ اجْتِنَابِ مَا نُهُوا عَنْهُ، و الدَّعْوَةِ الى دِينِهِ، و الْجِهَادِ في سَبِيلِهِ، و جَعْلِ الإِنْسَانِ يَعْبُدُ مَن يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، و هُوَ رَبُّ الْمَادَّةِ، لاَ أنْ يَعْبُدَ الإنسانُ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ شَأْناً مِثْلُ المَالِ الذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تعالى مُسَخَّراً لَهُ، أَوْ أَن يَعْبُدَ مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ مِثْلُ الإِنْسَانِ.

فاللَّهُ تعالى لَمْ يَنْهَنَا عَنْ حُبِّ الأَهْلِ و الوَلَدِ و المَالِ، و لَكِنْ نَهَا نَا عَنْ طُغْيَانِ حُبِّ ذَلِكَ على حُبِّ الله تعالى و رَسُوله، فَإِذَا تَعَارَضَ حُبُّ الوَالِدَيْنِ، أوْ حُبُّ الزَّوْجَةِ و الْوَلَدِ، أو حُبُّ المَالِ معَ حُبِّ اللهِ تَعالَى ورَسُوله، فَضَّلَ المُومِنُ حُبَّ اللَّهِ و رَسُوله على حُبِّ كُلِ شَيْءٍ، و ضَحَّى بِكُلِّ شَيْءٍ في سبِيلِ اللَّهِ تَعالَى، و هَذَا هُوَ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الآيةٌ >وَ الذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاَ للَّهِ<. أيْ جَعْلُ المَحَبَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ خَاضِعَةً لِحُبِّ اللَّهِ >وَ وَصَيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالدَيْهِ حُسْناً وإِنْ جَاهدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا< سورة العنكبوت]، فالإحْسَانُ للْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ مَا دَامَ في طَاعَةِ اللَّهِ تَعالَى، و نَفْسُ الشَّيْءِ بالنِّسْبَةِ للزَّوْجَةِ و الأَهْلِ و الوَلَدِ و العَشِيرَةِ، و المَالُ المُكْتَسَبُ بِطُرُقٍ شَرْعِيَّةٍ، و المُنْفَقُ فيما يُرْضِي اللَّهَ تَعالى، يَجْعَلُ حُبَّ اللَّهِ عَمَلاً مَحْسُوساً، و كذَلِكَ الحُكْمُ الْمُؤَدِّي إلى تَرْسِيخِ جُذُورِ الإيمَانِ في المُجْتَمَعِ، و جَعْلِهِ يَخَافُ اللهَ تعالى وَحْدَهُ، و الحُكْمُ السَّاعِي إِلَى تَطْبِيقِ العَدالَةِ الإِجْتِمَاعِيَةِ، و القَضَاءِ علَى الفَقْرِ و المَرَضِ و الأُمِّيَّةِ و الخَوْفِ مِنَ البَشَرِ، كُلُّ ذَلِكَ يُتَرْجِمُ حُبَّ اللَّهِ تَعالَى بِصِدْقٍ في المَيَادِينِ العَمَلِيَّةِ المَحْسُوسَةِ.

وهَذِهِ المَكَانَةُ للَّهِ تعالَى في قُلُوبِ المُومِنِينَ هِيَ التِي جَعَلَتْهُمْ يَهْجُرُونَ دِيَارَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ وأَبْنَاءَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَ حُبّاً للَّهِ ورَسُولِهِ.

4) مما يستفاد من الآية :

1) أَعْظَمُ جَرِيمَةٍ عند اللهِ تعالَى هِيَ الشِّرْكُ بِهِ >إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ< النساء 48] وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قُلْتُ يا رسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال : >أَنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدّاً وهُوَ خَلَقَكَ<.

2) أَعْظَمُ حَسَنَةٍ وَاقِيَةٍ مِنَ النَّارِ الإعْتِرَافُ للَّهِ تعالى بالأُلُوهِيَّةِ، والعَمَلُ بِصِدْقٍ واخْلاَصٍ على تحْقِيقِ الطَّاعَةِ والخُضُوعِ للهِ تَعالَى ظاهراً وبَاطِناً، قال تعالى >فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولاَيُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً< وقال صلى الله عليه وسلم >مَامِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صِدْقاً مِن قَلْبِهِ إِلاًّ حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ< متفق عليه].

3) الأَنْدَادُ الأَكْثَرُ خَطَراً على المُسْتَقْبَلِ الإِنْسَانِي هِيَ الأَصْنَامُ البَشَرِيَّةُ المُتَمَثلَةُ في الزَّعَامةِ الحِزْبِيَّةِ، والطَّائِفِيَّةِ، والْمَذْهَبِيَّةِ، والقَوْمِيَّةِ والدِّينِيَّةِ أَحْيَاناً -أَيْ المُتَاجِرَةِ بالدِّينِ لتَحْقِيقِ أَغْرَاضِهَا- فَمَثَلُ هَذِهِ الزَّعَامَةِ والمَشِيخَةِ هِيَ التِي قَصَمَتْ ظَهْرَ المُسْلِمِينَ وفَرَّقَتْ كَلِمَتَهُمْ، وصَوَّبَتْ بَنَادِقَهُمْ نَحْوَ صُدُورِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، لأَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ حَقّاً لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَادِيَ أَخَاهُ أَو يَشْتُمَهُ أو يَتَآمَرَ عَلَيْهِ، وَ أَحْرَى أَنْ يَقْتُلَهُ في سبيلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ بَسِيطٍ هُو الاِسْتِئْثَارُ بالزَّعَامَةِ والظُّهُورِ على مَسْرَحِ الأَحْدَاثِ، والتَّمْكِينِ لِنَفْسِهِ، وحِزْبِهِ، أو جَمَاعَتِهِ فَهَذَا هُوَ الخَطَرُ المَاحِقُ الذِي يَتَرَبَّصُ بالمُسْلِمِين مِن دَاخِلِ أَنْفُسِهِمْ إِذَا لَمْ يَرْتَفِعُوا بِشُعُورِهِمْ ومُيُولِهِمْ إلَى مُسْتَوَى التَّوَجُهَاتِ الرَّبَّانِيَةِ > وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ< آل عمران 79]، أي مُخْلِصِينَ الطَّاعَةَ وَالمَحَبَّةَ للَّهِ تعالَى وَحْدَهُ.

4) إنَّ الحُبَّ للهِ تعالَى عٍنْدَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبِ المُسْلِمِ لاَ يَتْرُكُ فيهِ مَكَاناً لِحُبِّ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ بُغْضِهِ، فَبِحُبِّ اللهِ تعالَى يُحِبُّ الخَيْرَ لِكُلِّ النَّاسِ، فَيَنْصَحُ المُسْلِمِينَ بالثَّبَاتِ على الدِّينِ، ويُجَنٍّدَ نَفْسَهُ لِدَعْوَةِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ قَصْدَ إِرْشَادِهِمْ وهِدَايَتِهِمْ، مَهْمَا قَاسَى مِنَ الشَّدَائِدِ، وقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تعالَى عَنْ حِرْصِ الرسول صلى الله عليه وسلم على هِدَايَةِ قَوْمِهِ، فَقَالَ >لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُومِنٍينَ< الشعراء]. ولَقَدْ كانَ أَبُو بَكْرِ رَضِي الله عنْهُ يَقُولُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ : -وهُمْ يَتَنَاوَلُونَهُ بِالأَذَى، ويَضْرِبُونَ وَجْهَهُ الْكَرِيمُ بِالنِّعَالِ المَخْصُوفَةِ- >رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ! رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ! رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ!< يَتَعَجَّبُ مِنْ حِلْمِ اللَّهِ تعالَى عَنْ هَؤُلاَءِ الجُهَّالِ الذِينَ يَرْتَكِبُونَ هَذَا الإِجْرَامَ في حَقِّ مَن لاَ يُحِبَّ لَهُمْ إِلاَّ الخَيْرَ، ولاَ يَدْعُوهُمْ إِلاَّ الى عِزِّ الدُّنْيَا والآخِرَةِ. هُدُوءٌ عَجِيبٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ في مِثْلِ هَذِهِ الأَحْوَالِ إِلاَّ عَلَى المُتَفَانِينَ في حُبِّ اللَّهِ تعالَى.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>